تنقسم عائلة الفرنسي من أصول مغربية، مولاي إبراهيم البوخاري، إزاء الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي تجري جولتها الأولى في 23 إبريل/ نيسان، إذ ينوي الأب المتقاعد بعد أربعين عاماً من العمل في الشركة الوطنية للسكك الحديدية، التصويت لصالح جاك لوك ميلانشون، مرشح جبهة اليسار، وبينما تحاكي مريم الصالحي زوجها البوخاري من دون اقتناع كبير، فإن ابنتيه الجامعيتين قررتا أن تصوتا لإيمانويل ماكرون مرشح حركة "ماضون قُدُما" (تعرف نفسها على أنها لا يمنية ولا يسارية)، فيما قرر أحد أبناء البوخاري ألا يصوت لأن "جميع المرشحين يتشابهون"، ولم يحسم الولد الثاني، وهو أكثر العائلة تديّنا، أمرَه بعد، وينتظر تصريحات كل المرشحين إلى آخر دقيقة لعلَّ رأيَه يستقر على مرشح، وإن كان قلبه يميل نحو اليمين، بسبب إقرار اليسار لقانون الزواج المثلي.
معضلة الصوت العربي والمسلم
يمنع القانون الفرنسي إجراء إحصائيات على قاعدة الدين والعرق، مخافة التمييز بين المواطنين الفرنسيين، بحسب ما يؤكده أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة باريس الثامنة حسن مصدق، والذي أوضح لـ"العربي الجديد"، أن حجم الكتلة الانتخابية للفرنسيين من أصول عربية، يختلف عن حجم الكتلة الانتخابية للفرنسيين المسلمين لكنه يحسب من بين تلك الكتلة؛ التي يفوق عددها 4.5 ملايين في التقديرات الرسمية، لكن هذا الرقم في نظر المركز الوطني للإحصاء (INSSE) المهتم بالإحصائيات الديموغرافية يقفز إلى 7 ملايين نسمة، وهو ما يوازي نسبة 10.23 في المائة من العدد الإجمالي للسكان.
لكن مصدق يستدرك قائلاً إن "الكتلة الانتخابية العربية-الإسلامية الموثوق منها، لا تتجاوز مليونَيْ ناخب، صوّت منها لصالح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في انتخابات الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في 2012 حوالي 55.5 في المائة من المصوتين من ذوي الأصول العربية وصوّت حوالي 7% لصالح المرشح نيكولا ساركوزي، بينما عزفت البقية على التصويت، وفقا لتقديرات مستقاة من صناديق الاقتراع تناقلتها وسائل الإعلام عقب الانتخابات".
تتسم الكتلة الانتخابية للصوت العربي المسلم، بأنها غير منسجمة التوجه، وضعيفة التكوين سياسياً، وهو ما يفسره الباحث مصدق، في ضوء غياب نخبة سياسية عربية-إسلامية فرنسية توجه تلك النخبة وتنير لها الطريق، بحيث يتكرر ما حدث في واقعة تصويت تلك الكتلة بأغلبية لصالح الرئيس جاك شيراك، في انتخابات 2002، التي فاز فيها بأغلبية ساحقة بنسبة 82.21%، في ظل توحد المجتمع الفرنسي وفي قلبه تلك الكتلة خوفا من خطاب اليمين المتطرف والذي لم يحصل مرشحه جان ماري لوبان إلا على 17.79% من إجمالي المصوتين، في ردة فعل انتخابية تتسم بالانفعال ومحدودة التأثير في ما بعد الانتخابات".
وتقترب قراءة مصدق مع ما يراه الباحث فرانسوا بورغات، مدير أبحاث في "المركز الوطني للأبحاث العلمية"، والخبير في الشؤون الإسلامية، الذي تنبّأ بأن الاشتراكيين سيعيدون مغازلة الصوت الإسلامي، وهو ما يقوم به هولاند في نهاية ولايته الرئاسية، ولكنّ "الناخب الإسلامي خاب ظنه من الانعدام الظاهر للتوازن في الخط السياسي للرئيس الفرنسي".
وفي ظل انعدام استطلاعات الرأي حول النوايا التصويتية للعرب والمسلمين في انتخابات 2017، بسبب حظر الإحصاءات المرتكزة على العرق والإثنية واللون، يتوقع بورغات ألا يختلف المشهد عما جرى في انتخابات 2012 التي نال هولاند فيها ما بين 86% إلى 93% من أصوات الفرنسيين العرب والمسلمين، وفقا للتقديرات المستقاة من صناديق الاقتراع". وبسبب هذه الضبابية في المشهد الانتخابي، ينادي باحثون فرنسيون عديدون من بينهم فابيان جوبارد وروني ليفي، من "المركز الوطني للعلوم الاجتماعية"، منذ عام 2009، بالانفتاح على الإحصاءات الإثنية والدينية، كما هو معمول به في كثير من الدول الأوروبية، كما أن مرشح حزب "الجمهوريين" (يمين الوسط)، فرانسوا فيون، طالب صراحة بالسماح بإجراء إحصاءات على أساس العرق قبل عامين، حين تحدث عن الوافدين الجدد إلى فرنسا، وقال: "يجب أن نعرف من نستقبل، وما الذي يصير عليه هؤلاء، وكيف يندمجون. لهذا السبب، يجب إنجاز إحصاءات إثنية".
تباين التوجهات الانتخابية حسب الأجيال
تتباين الآراء السياسية للأجيال المختلفة من الكتلة الانتخابية للفرنسيين من أصول عربية وإسلامية، كما يرى الباحث في وزارة الدفاع الفرنسية، إليامين ستّول، قائلا لـ"العربي الجديد": "كلما كان الجمهور مثقفا انتقى مرشَّحَه بعناية ودرَسَ برنامَجَه الانتخابي بتمعن"، وهذا "ما يجعل كثيرا من الشباب العربي المسلم يميل نحو أحزاب اليسار والأحزاب المدافعة عن البيئة، بينما يميل أصحاب الأطر العليا إلى اليمين الجمهوري، بسبب تخفيفه الكبير من الضرائب"، في الوقت الذي "كان فيه الجيل الأكبر سنا يصوّتون لصالح شيراك أو غيره لمجرد أنه زار مسجد الحيّ أو كانت له علاقات جيدة مع زعماء بلدانهم الأصلية".
ولا يجازف المرشحون بتسمية الصوت العربي والمسلم بشكل محدد، إذ تمنع قيم العلمانية الفرنسية التوجه نحو ناخب محدد، "لكن زيارات هولاند إلى ضواحي باريس، التي تعتبر خزّانا للصوت العربي، قبل الانتخابات، وأيضا حين يزور المرشح فرانسوا فيون جزيرة لاريونيون، (الواقعة في المحيط الهندي إلى الشرق من مدغشقر)، والتي تضم جالية مسلمة مهمة، يمكن فهم النوايا الحقيقية لمثل هذه التنقلات. كما أن ترشيح مختلف الأحزاب لمرشحين من أصول عربية إسلامية يسير في نفس الاتجاه، لكن بشكل ملتوٍ"، كما يقول مصدّق، مردفا ما يشغل بال المرشح "هو أن يهتم بالصوت واستقطاب صاحبه، وذلك كيفما كانت أصوله الدينية والثقافية والعرقية. المهم هي بطاقة التصويت والتصويت".
ووفقا لما وثقه معد التحقيق، فإن فوز المرشح البرلماني الاشتراكي غازي حمادي، التونسي الأصل في مدينة مونتروي، بالضاحية الباريسية، يمكن من خلاله فهم كيف يصوت العرب والمسلمون، إذ لا يخفي حمّادي أن النسبة الكبيرة من العرب والمسلمين في دائرته الانتخابية ساهمت في فوزه سنة 2012. ورغم أنه حاول التأكيد في تصريحاته لـ"العربي الجديد"، على أن التصويت كان مواطنيّا، إلا أن العديد من سكان الحيّ أكدوا لمعد التحقيق في استطلاع شفوي، أن زياراته للمسجد الكبير في المنطقة ولقائه بفعاليات تمثل عرب ومسلمي المنطقة كان لها كلمة الفصل في إيصاله إلى البرلمان، والدليل على دور ذلك، أن الجالية ساهمت بإقصائه، بشكل مهين جدا، في الانتخابات البلدية بمونتروي سنة 2014، بعد أكثر من سنتين من الحكم الاشتراكي.
ما هي قضايا العرب والمسلمين الانتخابية؟
يحدد الباحث مالك بزوح، صاحب كتاب "فرنسا-الإسلام: صدمة الأفكار الجاهزة"، قضايا العرب والمسلمين التي تشغل أي مواطن فرنسي آخر، والتي تأتي في أولوياتها الشغل والسكن والصحة والتعليم. لكن اليمين المتطرف وبعض دوائر اليمين الجمهوري، يلجأ في كل استحقاق انتخابي إلى إقحام مواضيع الإسلاموفوبيا والإرهاب والهوية والوطنية والاندماج، وهو ما ورد مؤخرا في برنامج المترشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان الانتخابي، والذي يدفع، أحيانا، مرشحي اليمين الجمهوري للتماهي معه، وهو ما فعله المرشح فرانسوا فيون حين صرح قبل أشهر: "لا أريد أن أتحدث عن مكافحة انزواء بعض الجماعات، حتى لا أسمي المشكلةَ التي توجد لنا مع الإسلام. الكاثوليكيون والبروتستانتيون واليهود والبوذيون والسيخ لا يهددون الوحدة الوطنية"، وبسبب تنامي هذه المشاعر، فإن الكثير من الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية، يرفضون الإفصاح عن أصولهم، بسبب التمييز الذي يستهدفهم، وبسبب رغبتهم في الظهور بمظهر المندمج.
من يحصد أصوات العرب والمسلمين؟
يتوقع باحثون فرنسيون مهتمون بمسارات التصويت في الانتخابات المقبلة، حالة عزوف كبير بين الجيل الثاني والثالث من العرب والمسلمين عن التصويت، وهو الرأي الذي يؤيده بشدة الباحث مصدق، مفسر ذلك بأن اليمين (حزب الجمهوريين) فشل في تقديم مرشح يمكن الرهان عليه بعد فشل الحزب الاشتراكي في تحقيق وعوده الانتخابية، كما أن فشل مرشح حزب "الجمهوريون" ألان جوبيه، وصعود فيون المرشح الآخر عن نفس الحزب، بدعم من الأوساط الشعبوية؛ ثم وقوع هذا الأخير في العديد من المناسبات بالتشهير والخلط بين الإسلام والإرهاب، كما مطالبته باستمرار الجالية الإسلامية بالتبرؤ من الإرهابيين، وتبنيه مواقف مثيرة للجدل في الشرق الأوسط تبتعد بفرنسا عن سياستها التقليدية العربية، تدفع كلها هذه الأوساط المؤثرة بالابتعاد عنه".
ويخلُصُ مصدق: "أتوقع ألا يستفيد اليمين والاشتراكيون من هذه الكتلة الناخبة المهمة في الانتخابات الرئاسية المقبلة كما السابق. بل يمكن أن يتجه الجيل الثاني والثالث من الصوت العربي إلى الامتناع عن التصويت، وتبني اختيارات راديكالية، بسبب الإحباط وصعود مدّ اليمين المتطرف والشعبوي بصفة عامة، في انتخابات تشهد تقلبات سياسية استثنائية، مثل محنة فيون المتهم بتوفير عمل وهمي لزوجته واثنين من أبنائه، وعزوف هولاند عن الترشح ثم ظهور شخصية ماكرون المثيرة للجدل، و"هو ما يجعل الصوت العربي الإسلامي لُغزاً يصعب سبر أغواره"، على حد قول عالم الاجتماع الفرنسي الجزائري، قدور زويلاي.
المصدر: العربي الجديد - باريس - محمد المزديوي
↧