٢٥ شباط/فبراير ١٩٥٤م
في مثل هذا اليوم تنازل الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي عن الحكم وغادر البلاد بعد أن قدم استقالته حقناً لدماء شعبه وحفاظاً على جيشه ومجنباً بلاده ويلات القتال بعد أن ثار عليه بعض معارضيه من الضباط وأعلنوا عليه التمرد والعصيان. لقد كان بإمكانه التصدي للثائرين والتغلب عليهم لو أنه اختار سبيل القمع والاقتتال ولكنه بدلاً من ذلك كتب رسالة استقالته وسلمها إلى نائبه رئيس مجلس النواب «مأمون الكزبري» لإذاعتها أمام مجلس الشعب، ومما جاء فيها:
«… رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غالٍ من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري المحبوب الذي انتخبني وأولاني ثقته، آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني، وأبتهل إلى الله أن يحفظه من كل سوء، وأن يوحده ويزيده منعة، وأن يسير به إلى قمة المجد.»
لقد أراد تجنيب البلاد حرباً أهلية مدمرة، وآثر عدم حصول انشقاقات في صفوف الجيش السوري، ففي المقطع الأول من رسالة استقالته الذي حذفته الإذاعة السورية آنذاك إشارة واضحة إلى أنه كان باستطاعته سحق الثائرين ولكن على حساب إحداث انشقاق في الجيش «وهو من لحمنا ودمنا» وإضعاف للدفاع في وجه العدو الإسرائيلي المتربص على الحدود الجنوبية من البلاد.
هكذا هي الوطنية الصادقة لشخص كرس جل حياته لخدمة وطنه وإعلاء شأن جيشه الذي أحبه وعمل كثيراً لبنائه وتقويته ليكون حصناً منيعاً لصد العدو الصهيوني الغاشم. لم يفكر يوماً في مصالح شخصية آنية تُملي عليه البقاء في الحكم بل كانت قضية وطنه هي القضية العليا لديه وهي الوحيدة المستحوذة على اهتمامه.
فأين مثل هؤلاء الرجال اليوم بعد ستين عاماً وقد دُمرت البلاد وسالت الدماء وانتهكت الحرمات وشُرد العباد من أجل ثلة متآمرة متمسكة بإصرار في حكم البلاد مع شرذمة من المنتفعين والمرتزقة، وتساندهم في ذلك دول خارجية لها أطماع وأهداف في البلاد لا تمت بأية صلة لمصلحة الشعب السوري المنكوب.
العقيد أديب بن حسن الشيشكلي من مواليد حماة 1909 ومن عائلة كبيرة ومعروفة نشأ فيها وتخرج من المدرسة الزراعية في السلمية ثم من المدرسة الحربية في دمشق، تطوع في جيش الشرق الفرنسي ثم انتقل مع غيره من الضباط إلى الجيش السوري وشارك في معركة تحرير سورية من الفرنسين سنة 1945، ثم كان على رأس لواء اليرموك الثاني بجيش الإنقاذ في فلسطين سنة 1948.
اشترك العقيد الشيشكلي مع حسني الزعيم في الانقلاب الأول في (30 آذار/1949)، كما اشترك مع الحناوي في الانقلاب الثاني في (14 آب/1949) والذي عينه قائداً للواء الأول برتبة عقيد، ومهد الطريق للشيشكلي المسيطر على مجلس العقداء لمنازعة رئيس الدولة هاشم الأتاسي على السلطة، حيث أصدر في صباح (19 كانون الأول/1949) بلاغاً بتوقيعه أكد فيه إقصاء سامي الحناوي وأسعد طلاس عن القيادة.
عرف العقيد الشيشكلي بالرجل الحديدي في سورية حيث حقق استقراراً داخلياً لم تشهده البلاد من قبل، ولإزالة طوق العزلة العربي الذي فُرض على نظامه شن سلسلة من التصريحات ضد إسرائيل وصلت حد التهديد بشن حرب ضدها، وقال في أحد تصريحاته: (إن الطريق من دمشق إلى الخليل سيكون سالكاً أمام الجيش السوري)، كما انخفضت نسبة الجرائم وحوادث السرقة والسطو، بينما سارت أمور وزارات الدولة بإشراف الأمناء العامين سيراً حسناُ، وأعلم الشيشكلي مندوبي الدول العربية والأجنبية أن لا حاجة لحصول انقلابه على اعتراف جديد وأنه يكتفي بالاعتراف القائم، كما دعا إلى تأسيس الحزب القومي السوري الاجتماعي.
وكانت نهاية الرجل الشجاع يوم اغتيل عام 1964 في شارع ببلدة سيريس في البرازيل على يد شاب سوري أحد المعارضين لسياسته.
↧