هذه المرة يا آبت أكتبُ لك وأعلمُ أنك لن تقرأني. أنتَ اليوم في البيت مسجّىً، وأنا بعيد عنك آلاف الأميال. يقولون لي: وجهُّك الليلة أبيض، وما عرفتُك إلا خمري اللون. يقولون لي: قلتَ إنك تسامحنا أبناءً وزوجة، وأنا قلتُ: من أنا حتى أسامحك يا سيدي؟
لم أكن أعلمُ أن حديثي معك في ذكرى المولد النبوي سيكون آخر كلام بينك وبيني. كان صوتك وقتها عادياً، وإن لم يكن مرحاً ولا محبطاً كالعادة. فلم أقلق. أنتَ أنتَ كما عهدّتك دائماً. سمعتُ من مغتربي الجديد أنك أصبت بوعكة صحية مرة أو مرتين، فلما حدثُتك وجدتُك سليما، فهل كنتَ تخفي آلامك لكي لا تؤلمني في غربتي؟
ليست هذه الليلة كأي ليلة، اليوم تغادرنا وتبقى حيًّا فينا. اليوم يا أبتاه أكتشفتُ معنىً جديداً للغربة؛ أن يرحل والدك ولا تستطيع أن تقبل رأسه وقدمه، أن تتذكر تجاوزاتك وهفواتك بحق أب كريم لم يطلب من ولده شيئاً. أن تحتار هل يذهب العازب لشقته لينفرد بنفسه ويبكي ويدعو، أم يبقى في المكتب ليكتب كلاماً رقيقاً لم يستطع قوله لأحد، أن تكتسب الكتابة وظيفة جديدة في الرثاء. أن تحتار هل تبلغ الناس بالخبر؟ أم تكتم ألمَك وحزنك؟ أن تتردد قليلاً ثم تسارع للتواصل مع الأهل والأقارب طالباً الدعاء للوالد بالمغفرة والرحمة، أن تجتاز حدود البكاء إلى حزن أعمق من البكاء بالعين..
لو أردنا يا سيدي أن نقيم لك عزاءً هو أقل من قدرك العالي، هل نقيمه في عواصم أربع أصبحت الأسرة مشتتة بينها؟ ولا عاصمة إلا التي تسكنُ أنتَ فيها حياً وميتاً.
حديث العواصم يذكرني بك يا أبي، أنتَ أولُ وأعظم إنسان علّمني درس السياسة دون كثير كلام صيف عام 1982، ولم أكن أبلغُ التاسعة من عمري. حينما غزا الصهاينة لبنان، عرّفتَني أبتاه معنى هويتي الفلسطينية، التي ما زلتُ أكتشفُ أبعاداً جديدة فيها، بعد بلوغي الثالثة والأربعين سنين عدداً.
حينذاك، كنتَ يا سيدي موظفاً صغيراً لدى حكومة قطر، ولم تكن تتمكّن من إدخار شيء كبير من مرتبك الشهري، رغم عملك فترتين صباحية ومسائية. ولما وقعتْ مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر/أيلول 1982، أخذتَني وأخي الأكبر لندفع نحن الطفلين تبرعاً رمزياً لأبناء شعبنا الخارجين من جحيم الموت وأنيابه في تلك المجزرة المشؤومة.
عندها كان درسيَّ السياسي الأول، بنكهة الدم، فلسطينُ موجودة وتقاوم، والصهاينة عاجزون عن اقتلاع مقاومتنا في الداخل، فذهبوا يطاردون ويقتلون المدنيين في الخارج، رغم أن لبنان لم يكن خارجاً أبداً بالنسبة للفلسطينيين، أو هكذا يراه الجميع اليوم، بعدما اتسع ليحوي لاجئي مأساة أكبر، وتلكم هي مأساة سورية، التي اكتشف الجميع منذ اندلاع ثورتها العظيمة ربيع 2011، كم كان التآمر الدولي والإقليمي على فلسطين رحيماً بالمقارنة، وفي كلٍّ شر، وفي الحالتين ظهرت لنا شرور البشر وأحقادهم وظلمهم؛ فرأى أهلنا في سورية في ستة أعوام فحسب، ما رأيناه نحن الفلسطينيين في سبعة وستين عاماً كاملة، فكان ألمُ السوريين مكثفاً ودامياً، وألمُ الفلسطينيين مفرّقاً ومحتملاً بالمقارنة.
في درسي السياسي الثاني لم نكن متفقين، ولكني اليوم بعد حصولي على درجة الماجستير في السياسة، أشهد أنك كنتَ مصيباً يا أبتاه.
في الحرب على العراق عام 1991 انقسم بيتنا إلى معسكرين كالعرب الرسميين تماماً؛ أكثر البيت يسمع أخباراً من الإعلام الأردني لأنها تؤكد أن العراق صامد، وأنا وحدي أسمعُ البي بي سي لأنها تشير إلى قرب انتصار المتحالفين في “النظام العالمي الجديد”، الذي لم نرَ بعد عدله ولا إنصافه، لا في فلسطين ولا العراق ولا سورية ولا اليمن ولا غيرها.
كيف قرأتَها ومعك أخي الأكبر؟ وكيف أخطأتُ أنا في ذلك؟ يا طيب القلب يا موظفا بسيطا لا يفعل أكثر من قراءة الصحف اليومية، ولكنه يحمل همَّ فلسطينه وأمته، كيف فهمتَها ولم تَفهمني؟
اليوم، حبيبي أبكيك من تركيا، كما لم أبكك من قبل، اليوم أذكرُ عندما ذهبتَ لزيارة قطاع غزة في يونيو/ حزيران 1983، ووصل تصريح الاحتلال لك بالزيارة، وتأخرّت تصاريحنا نحن الأبناء الخمسة وأمّنا، وعندما ألقاك في بيت جدتي في حارة الدرج بغزة، أنتظرُ في آخر الصف، حتى أكفف دموعي فلا تراني باكياً، لأنك علمتني أن الرجل الفلسطيني لا يبكي أمام الناس. ولكنك يا أبتاه كنتَ في ذلك مخطئاً؛ فالفلسطيني لن يكتم مشاعره للأبد، وحق لنا أن ننفجر بالبكاء مثل كل الأطفال الآخرين يا سيدي، فنحن منهم وهم منّا!
أبتاه.. اليوم أبناؤك في أربع عواصم، أبتاه.. نحن اليوم أسرة افتراضية تلتقي فقط على الهاتف، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أبتاه اليوم أنت في قلبي ولا أراك، أبتاه.. هل سامحتني يا سيدي؟
المصدر: العربي الجديد – أمجد أحمد جبريل