ميشيل سورا مسكين هذا الرجل، حينما عايش كيف يقوم بنو جلدته من الفرنسيين بقصف المدن التونسية، وملاحقة كل الأصوات المنادية بالاستقلال، أخذ يتمرد على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فرحل إلى فرنسا لينخرط في الثورة الطلابية عام 1968 بعد حصوله على شهادة عليا في علم الاجتماع، سافر إلى لبنان في عام 1971 لم يكن يتجاوز حينها من العمر الرابعة والعشرين، ما لبث أن أصبح صديقا مقربا من الفدائيين الفلسطينيين.
سورا عالم الاجتماع الفرنسي البارز والباحث، المولود في تونس عام 1947 مناصرته للقضية الفلسطينية وانحيازه للعروبة، انعكس ذلك في دراساته وكتاباته، ففي عام 1972، انتقل إلى دمشق، وأتمّ فيها دراسة الماجستير، حول أعمال الراحل غسان كنفاني، كما أعد أطروحة أخرى عن رائد القومية العربية ساطع الحصري، يقول عنه أحد أصدقائه: "لا أظن أننا نستطيع أن نفصل العربي من الفرنسي في شخص ميشيل، فقيمة ميشيل هي في ترابط هذيْن الاثنيْن معاً"، عندما تزوج في العام 1979 من حلبية سورية، بات أكثر التصاقاً بالعالم العربي، بل أصبح جزءً من هذا المجتمع الذي يعجُّ بالانقسامات والحروب والاستبداد، إلى درجة قيل عنه أنه مُفكك الديناميات الاجتماعية والسياسية في المجتمعين اللبناني والسوري، في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية.
تَحَمُّس سورا لقضية العرب الأولى فلسطين جعله ينخرط فيها، مُتلّمسا أوجاع أصحابها المشردين، لذلك تطوع لتدريس اللغة الفرنسية في مخيماتهم، وأخذ يكتب عن معاناتهم وأوجاعهم، يساريته الصادقة أملت عليه واجب الوقوف دوما بمواجهة الظلم والاستبداد، لذلك كتب عن المجتمعين السوري واللبناني، كتب كثيرا عن الدولة السورية وعن إشكالية النظام السياسي فيها وممارساته، كتب عن الطبقية والطائفة، كتب عن الإسلام وعن الشرق كما الغرب.
أحبهم وناصر قضاياهم فقتلوه! وقوف ميشيل سورا إلى جانب الإنسان المظلوم، جعله يدفع حياته ثمنا لذلك، ففي عام 1985 وعند عودته من زيارته القصيرة لباريس تم اختطافه في بيروت، مع فرنسي آخر اسمه جان كوفمان، رمي في زنزانة في مكان على طريق المطار، ما لبث خاطفوه بعد عام أن أعلنوا عن تصفيته باعتباره جاسوسا، وقاموا بنشر صورته بعد موته، على الرغم من أن جميع الرهائن الفرنسيين الخمسة الذين تعرضوا للخطف أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، بما فيهم زميله كوفمان، أفرج عنهم جميعا!.
قصة هذا المسكين المريرة، لم تنتهِ، فطيلة عشرين عاما ومحبيه والسلطات الفرنسية، وهم يقتفون أثرا صغيرا أو بصيص نور قد يقودهم لمكان دفنه، إلى أن حلّ شهر تشرين الأول أكتوبر عام ٢٠٠٥ عندما تم الكشف عن جثته، وهي لا تزال شبه مكتملة داخل صندوق معدني مدفونة بعمق متر تحت الأرض، في منطقة الرمل العالي في ضاحية بيروت الجنوبية، إلا أنه لم يتم تسليم الجثمان للدولة الفرنسية إلا بعد مضي أكثر من ستة أشهر على اكتشافه!.
احتاج ميشيل سورا لوقت طويل قبل أن يتخلّص من فكرة أن كل ما لحق به كان مجرد سوء تفاهم، كما يقول زميل زنزانته "جان كوفمان" في فيلم "يوم عنف عادي" 1996 لعمر أميرالاي، والذي يضيف "غالباً ما كان سورا يقول: مستحيل أن يكون هؤلاء لبنانيين. كان يعرف جيداً أنهم لبنانيون من لهجتهم، لكن تفريطهم بلبنانيتهم، كما كان يقول، هو أمر لا يمكن تخيّله، وحين اكتشف حقيقة خاطفيه، آلمه ذلك كثيراً، فوَعيُه عن لبنان والشرق انقلب رأساً على عقب، واهتزت أفكاره، لم يعد ميشيل كما هو لأنه فَقَد كل أوهامه".
نعود للعنوان الذي طرحناه، منذ أيام قامت مرشحة الرئاسة الفرنسية "مارين لوبان" زعيمة حزب اليمين المتطرف بزيارة لبنان، استُقبِلت خلالها رغم عنصريتها بحفاوة بالغة، وبيمنا كان ميشيل سورا بهويته المتعددة الألوان، عابرا للحدود، لم يتعصب لفرنسيته أو لونه الأبيض، مناهضا للاستبداد، يقف بجانب المظلوم .
كانت لوبان بزيارتها تلك، تكره قيم التسامح والحرية التي جاءت بها الثورة الفرنسية، فتقف إلى جانب قوى الاستعباد، وتنصر الظالم على المظلوم، لذلك نجدها تدعو لطرد اللاجئين، وكل من هو مختلف من أوروبا، مثلها مثل من هلّل ورحّب بها من اللبنانيين، الذين لم يترددون ولو للحظة واحدة بالدعوة لترحيل اللاجئين السوريين من لبنان.
في يوم من الأيام كتب "توماس جيفرسون" لصديقه قائلا: "من اللحظة التي يضع فيها الرجل عينه على كرسي سياسي، يبدأ في سلوكه عفن ما" أليست مفارقة عجيبة؟ أن لوبان التي تقطر عنصرية وتطرف، لم تجد من تلتقي به شرقا أو غربا، سوى من كانت عينه على هذا الكرسي منذ أكثر من عقدين، مدة كانت كفيلة ليتعفّن خلالها كل شيء، فبعد أن تصدّعت رؤوس اللبنانيين، بانتقادهم على أحزابهم العائلية المتوارثة، تم توريث الصهر لزعامة الحزب، بعد أن أقصي منه كل منافس.
لا بد من اتحاد الدم بل إراقته! بكلمته الترحيبية التي ألقاها بمأدبة العشاء التي أقيمت للوبان، تحدث ممثل "التيار الوطني الحر" التابع لميشيل عون، عن الروابط التاريخية التي تجمع بين فرنسا ولبنان، وقال إن الموارنة أرسلوا إلى الملك لويس (25) ألف مقاتل منهم لمساعدته بحملته الشرقية، وأن الدم اللبناني اتحد منذ ذلك الوقت بالدم الفرنسي، من جهتها ردّت لوبان قائلة: "أومن بأن رابطة الدم هي أقوى الروابط" لذلك سارعت الصحافة الفرنسية لوصف لوبان بأنها لا زالت تعيش في منتصف القرن الثالث عشر.
بزيارتها تلك أخذت لوبان تتخوف على مسيحيي الشرق ومستقبل الأقليات في سورية، متجاهلة أنهم كانوا ولا يزالون أصحاب هذه الأرض الأصليون، لم تقرأ لوبان، مثلها مثل بقية الشعبيون، أنه منذ مائة عام كان من بين المسيحيين والأقليات من هم في طليعة المناضلين السوريين، ممن قارعوا الاستعمارين العثماني والفرنسي، منهم الأطرش وهنانو والعلي وغيرهم.
تجهل لوبان أن فارس الخوري المسيحي، سبق له أن ترأس الوزارة السورية عدة مرات، جمع مع إحداها وزيرا للأوقاف الإسلامية، وكذلك ترأس المجلس النيابي، ومثّل سورية في الأمم المتحدة، فضلا عن أنه كان أول نقيب انتخب للمحامين السوريين في عام ١٩٢١ لم تقرأ لوبان أن رئيس أركان الجيش السوري في عام ١٩٥٤ كان درزيا لبنانيا.
تتجاهل لوبان ومن هم على شاكلتها من عنصريين ومُستَعبدين، أن من هجّر ميشيل عفلق ليموت كمدا في بغداد، وشبلي العيسمي ليختفي في بيروت، ونزار قباني ليختم رحلته مع الياسمين الدمشقي في منفاه اللندني، وصادق جلال العظم ليرحل عن هذه الدنيا في برلين، وغيرهم كثيرون ممن ماتوا في المهاجر، لم تكن جبهة النصرة أو داعش، وأن من رفض عودة أكرم الحوراني، وحمود الشوفي إلى تراب الوطن، حتى بعد مماتهم، وأن من لاحق داعية السلام الأب الإيطالي "باولو دالوليو" من الأراضي السورية لأنه انحاز لجانب المظلومين، ومثله المفكر أحمد برقاوي، لم يكن الإسلام بأنواعه.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هل تعيد زيارة ماري لوبان للبنان ميشيل سورا من حيث يرقد في قبره الكائن في باريس اليوم بسلام؟ إلى بيروت وإلى هذا الشرق المكلوم، ليغرق من جديد بتلك الكوابيس التي رافقته على مدار أكثر من عشرين عام؟.
ختاما بين ميشيل وميشيل! (سورا، وشيحا، وعون، وسماحة) الأول ناصر كل مظلوم، ودافع عن كل المقموعين، الثاني وضع دستور استقلال لبنان عام 1926 فيما الثالث عطّل الدولة، كي يصل لكرسي الرئاسة، أما الرابع، فميشيل سماحة، حاول أن يقتل الإنسان الذي دافع عنه سورا، ويحرق كل الدسايتير والقوانين التي سبق أن كتبها شيحا، ومن معه من رجالات الاستقلال.
المصدر: أول مرة
↧