في الماضي، كانت الحدائق في دمشق تعج في النهار، وتخلوا في الليل، لتصبح موحشة فارغة ليس فيها سوى من بحث عن مخبأ أو عشيقان لا مكان يجتمعان فيه ليلًا سواها. لم يسبق أن امتلأت الحدائق كما هو حالها اليوم.
السبب ليس كثرة المتنزهين بل كثرة فاقدي المنازل والباحثين عن مأوى.
ففي دمشق اليوم ليس من الصعب العثور على المشردين الذين فقدوا بيوتهم. تكفي زيارة للمنطقة القديمة التاريخية، وسط المدينة، لترى الأطفال يلتحفون الأرض ليلًا. بعضهم يبيع مصاحف صغيرة وبعضهم يعتاش من بيع الورد والحلويات الخفيفة، وبعضهم يبيع الخبز.
قد يكون من الصعب الحديث معهم، فهم يخشون أسئلة الفضوليين وكاميرات الزوار، بعدما أورثتهم الحرب خوفاً يظهر في وجوههم.
يحاول هذا المقال التعرف على بعضهم والاقتراب من حياتهم.
بائعة الخبز
تبيع نايا، ابنة الاثني عشر عاماً الخبز مع اختيها، لَمَى ومي، في شوارع الشام القديمة. تذهب في الصباح إلى المدرسة، وفي المساء، بعد العشاء، تبدأ تجارتها.
نشأت في حي الأمين، لكنها وجدت نفسها مضطرة للبحث عن سبل الحياة بما استطاعت إليه سبيلاً.
أقوال جاهزة
شارك غردقصص مشردي دمشق.."أبيع الخبز لأصرف على أهلي، بشتري ربطة الخبز بـ50 ليرة سورية، وببيعا بـ125 ليرة"
"أبيع الخبز لأصرف على أهلي، بشتري ربطة الخبز بـ50 ليرة سورية، وببيعا بـ125 ليرة، والصبح بداوم بالمدرسة...صرت صف سادس، لما بلشت الحرب كنت أنا لسا ما دخلت المدرسة"، تقول لرصيف22.
على بعد نحو 100 متر تجلس والدتها برداء داكن، تراقب بناتها وهن يعملن خشية أن يخطفهن أحد أو يعتدي عليهن. ترفض أن يصورهن الفضوليون أو الصحافيون وتبقي عينيها عليهن لتحميهن من رجال مكتب مكافحة التسول.
"أنا مضطرة خلي بناتي يشتغلو… زوجي مفقود من 4 سنين وما منعرف عنو شي وما إلنا أي معيل"، تقول والدة نايا.
استطاعت أن توفر لهن التعليم خلال النهار على أن يعملن في الليل. لذا، فهن أفضل حظاً من الكثير من الأطفال السوريين، في البلد وخارجها، والذين بلغ عددهم 750 ألفاً بلا تعليم أو مدارس، ثقافتهم الحياتية ترتبط بالشارع بدلاً من الفصول الدراسية.
حال سوريا
يعيش اليوم حوالي 83.3% من السوريين تحت خط الفقر المباشر بحسب الأمم المتحدة: نسبة هائلة بالنسبة لبلد كان يعيش نمواً اقتصادياً تجاوز 30 بالمائة فيما قبل الحرب التي قلبت البلد رأسًا على عقب وبدلت حياة الناس وأحوالهم.
وقد تركت هذه الحرب 7.6 مليون نازح داخل سوريا وقرابة 4.2 مليون لاجئ في دول الجوار، بالإضافة لمن تمكن من الوصول إلى أوروبا ليستقر فيها.
بالطبع ليس من كل من نزح داخل سوريا مشرداً، فالبعض يسكن مع الأقرباء أو في مراكز إيواء، أو لديه السعة ليشتري أو يستأجر منزلًا جديداً. لكن هناك المُعدَمين الذين لم يتوفر لهم أي من هذه الخيارات.
فالازدحام الذي تشهده العاصمة، والتي تعتبر أكثر أمناً من ضواحيها ومن الكثير من المدن السورية، أدى إلى ارتفاع الإيجارات لتصبح بعيدة عن متناول الكثيرين.
كما أن في سوريا اليوم، يحتاج أكثر من 2.12 مليون شخص للمساعدة، بينما يعيش حوالي 500ألف شخص في الشارع.
أبو فايز...جزء من الشارع
أبو فايز، ذو السبعين عامًا، هو أحد من اتخذوا الحديقة العامة منزلاً. صار معروفًا في أحياء الشام القديمة، فموقعه الدائم قرب حمام السوق، يجده الباحث عنه بسهولة.
صرلي سنتين بقعد هون، وبالليل بروح بنام بحديقة قريبة باكل وبشرب من المصاري اللي بيعطوني ياها أهل الخير"، يقول لرصيف22. "أعيش يومي مستني موتي".
هجّرته الحرب من بيته في عين ترما بريف دمشق. لا أولاد له ولا أهل، يعمل في الشارع متسولاً ثم يبيت بين الأشجار.
وفي الحديقة ينام عشرات غيره، يفترش بعضهم الألواح الكرتونية، فيما يستخدم البعض الآخر فرشات اسفنيجة، ويبحثون عن غطاء لهم في البرد.
وقد خصصت الدولة بعض مراكز الإيواء للمشردين، لكنها لا تكفي ولا تلبي الحاجة في الشارع.
إخوة عن الشارة
عند إشارة المرور في منطقة المزة السكنية الراقية يقف 4 أطفال: أحمد وإخوته علاء وميس ونور. يتسولون من السيارات العابرة ويستجدون عطف المارة.
يقول أحمد (9 أعوام) لرصيف22 إنه فقد والديه خلال قصف بالقذائف شنته الفصائل المعارضة على حيِّهم في مخيم اليرموك، بحسب أحمد، فلجأ هو وإخوته إلى التسول الذي لم يجدوا سواه.
"أنا بحس إنو علي مسؤولية برعاية أخواتي وتأمين أكل وشرب إلهم ومجبور خليون معي طول الوقت مشان ما يصرلون شي وهني بعاد"، يقول أحمد باكياً لرصيف22.
لم يتخذ هو وإخوته حديقة واحدة كبيت لهم كما فعل أبو فايز. فهم يسيرون في شوارع دمشف كل يوم، ويبيتون أينما يُدركهم النُعاس.
المصدر رصيف 22
طارق علي صحافي سوري