تضطلع المؤرّخة والأكاديمية المصرية نيللي حنّا في كتاباتها بطرح مناهج وآفاق جديدة لدراسة تاريخ مصر في الفترة العثمانية، تلك التي توصم في معظم الكتابات التاريخية القومية بأنها قرون انحطاطٍ وتخلّفٍ.
وعبر كتابها "مصر العثمانية والتحوّلات العالمية 1500- 1800" والذي صدرت ترجمته مؤخراً عن "المركز القومي للترجمة"، تفصّل حنّا الكيفية التي يمكن بها فهم تاريخ مصر العثمانية في إطار تاريخ العالم ككل. وهي إذ تفعل ذلك فإنها تتوسّله عبر تتبّعها لظواهر بعينها في مصر العثمانية، رابطة إياها بأحداث إقليمية أو عالمية تتيح رؤية مغايرة لما استقرّ في معظم الكتابات التاريخية.
في البداية، تلفت صاحبة "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية" النظر إلى مفارقة اتساق الكتابات القومية مع خطاب القوة للمستعمر الأوروبي الذي غزا المنطقة في بداية القرن التاسع عشر، ذلك الخطاب الذي "كان همّه الأساسي إبراز الطبيعة المستبدّة للحكم، وأحوال التدهور والفوضى التي حاقت بالمجتمع والاقتصاد والثقافة والتعليم"، ما يعني أنه ينفي فعالية المجتمع في إدارة نفسه عبر "تسيير الناس لأمور حياتهم، أو عن الاقتصاديات، وكيفية تدبير الناس لمعيشتهم".
في ظلّ هذه الروايات السالفة، تُصوَّر العملية التاريخية - بحسب حنا - على أنها عملية تتمّ من أعلى إلى أسفل، وعلى هذا تتواءم صورة ذلك الانحطاط العثماني في هكذا سرديات مع فكرة "عدم وجود علماء كبار أو مفكرين أو أسماء لامعة معروفة، أو أشخاص لهم أفعال مشهورة".
ما تفعله حنّا هو أنها تنقض هذه الرؤية التي تروّج لمركز أوروبي فاعل وأطراف أخرى تتأثر، عبر تبنّيها لمناهج مغايرة في التأريخ للعالم الحديث تمكّنها من تتبّع جذور نشوء الحداثة والعالم الحديث خارج تلك الصورة التي رسختها المركزية الأوروبية.
وعبر فصول كتابها الأربعة تهدف إلى دراسة دور مصر في التحوّلات التي شهدتها الفترة المعنيّة، وكذا دورها في التطوّرات اللاحقة خلال القرن التاسع عشر، منطلقة من "فرضية إسهام مصر، شأنها شأن مناطق كثيرة خارج أوروبا، في تشكيل العالم الحديث".
ونظراً إلى أن هذا النوع من الدراسات لا يزال موضوعاً غير مطروق بما فيه الكفاية، فإن حنّا تسعى إلى مأسسة بعض الاصطلاحات والمداخل المغايرة في هكذا دراسة، وتأتي أولى هذه الاصطلاحات ما أسمته "التتجير"، وتقصد به ظهور تأثير زيادة الأنشطة التجارية على ثقافة المجتمع.
تقول حنّا إنه في مطلع القرن السادس عشر واكتشاف الكثير من الممرات البحرية فإن وتيرة التجارة الدولية ازدادت بين بلدان وإمبراطوريات العالم، ولم تكن مصر بمنأى عن هذه الأنشطة العولمية المبكّرة.
وبسبب من هذا التقارب برزت "اتجاهات في مصر توجد لها نظائر شبيهة في أماكن أخرى، سواء في الدولة العثمانية، أو الهند، أو في جنوب شرق آسيا، أو في أوروبا". وتضيف "هذه الظواهر المتشابهة، التي برزت في مناطق متباعدة جغرافياً، يحتمل بشدة أنها كانت نتيجة لأحد العوامل المشتركة التي شهدتها هذه المناطق في نفس الوقت".
هذه الظواهر والاتجاهات المتشابهة دولياً بأثر من اتساع وتيرة "التتجير" تُفرد لها الكاتبة فصول عملها، عبر التركيز على مجالات اللغة والاتجاه نحو استخدام اللغة العامية في قلب الفصحى، وكذا مجال إنتاج المنسوجات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأخيراً عبر الإشارة إلى أدوار المجهولين من الحرفيين والمنتجين والتجار والصنّاع في تمهيد المنطقة لحداثة القرن التاسع عشر.
بشأن اللغة، والتي اصطلح على تسميتها في الكتابات التاريخية بـ "اللغة العربية الوسطى"، فإن صاحبة "تجّار القاهرة في العصر العثماني سيرة أبي طاقية شهبندر التجّار" تضع هذا الانتقال من العربية القاعدية الفصيحة إلى لغة هجينة تجمع بين العامية والفصحى في إطار أوسع من المناطقية الجغرافية أو التخصّص البلاغي واللغوي.
في ما يخصّ الانتشار العالمي للظاهرة اللغوية، تضرب حنّا عدداً من الأمثلة "في أوروبا، حدث التحوّل من اللاتينية إلى لغات محلية أخرى: الإيطالية، والفرنسية.
كذلك ظهرت نسخ شعبية للإنجيل في القرن السادس عشر، أصبحت في متناول قطاع عريض من المسيحيين العاديين". وتشير أيضاً إلى أن "الكتّاب في أجزاء متفرّقة من جنوب آسيا حوالى عام 1500، كانوا يكتبون الأعمال الأدبية بلغات محلية، بدلاً من السنسكريتية التي ظلّت مهيمنة على مجال الأعمال الأدبية لقرون طويلة".
ما تسعى إليه حنا هنا هو نقض تلك الرؤية التي صوّرت الكتابة بالعربية الوسطى باعتبارها "مظهراً سلبياً ينتقص من مكانة العربية الفصحى، لغة القرآن، واللغة التي تتباهى بها مؤسسة الأزهر". فبسبب عملية النشاط التجاري الكثيف محلياً وعالمياً "أصبحت الفوارق الطبقية أقل حضوراً، وأكثر مرونة"، وذلك يعني "أن أناساً من خارج النخب المتعلمة والدينية أصبح بإمكانهم التعامل مع اللغة المكتوبة".
ولا يمكن هنا- بحسب حنّا- دراسة هذه الطريقة في الكتابة باعتبارها أمراً لغوياً محضاً، أو قياسها فنياً إلى سابقتها، إنما باعتبارها "عملية مرتبطة بتطوّرات تاريخية لا بدّ أن توضع في الاعتبار، ولا يمكن عزل هذه الظاهرة عن سياقها الاجتماعي".
ذات النظرة التي تتوخّى الرؤية الأفقية جغرافياً وتاريخياً، تطبقها حنا في فصلها الخاص بإنتاج المنسوجات، لكنها تضيف ما يمكن اعتباره جذوراً أولى لتقديم الشرق باعتباره ذلك الكيان الغرائبي، وحصر الصورة المروجة عنه في ما عرف لاحقاً بالاستشراق.
تفصل صاحبة "مصر أم الدنيا: قصة القاهرة في 1300 عام" ذلك الدور الذي لعبته مصر العثمانية باعتبارها ممراً ومركزاً مهماً لصناعة المنسوجات الهندية والأقمشة المصبوغة والخشنة، والتي انتقلت عبرها لأوروبا، وكذا أيضاً تجارة البن في القرن السادس عشر من اليمن عبر الأراضي المصرية وصولاً للدولة العثمانية وأوروبا وحتى الكاريبي.
ما يلفت النظر في كتاب حنا هو تلك الصيغة المتوازنة التي تتناول بها عمليّتي التأثير والتأثر الحضاري، إذ أنها تقدّم العالم القديم باعتباره مراكز حضرية متنوّعة أسهم الكثير منها في التمهيد لتجارة عولمية ورأسمالية بدائية كانت سبيلاً لتوسّع تجاري أكبر واكتشافات علمية أعقد مطلع القرن التاسع عشر.
وإنْ أخذ ذلك التوسّع منحى استغلالياً وجرائمياً في ما تلاه عبر الاستعمار الأوروبي لمناطق مختلفة من العالم، كما وأنه لا يمكن إغفال ذلك التفسير الاقتصادي للتاريخ الذي اعتمدته حنا في كتابها، ذلك لأنها ترى فيه منهجاً "لا يركز على التجارة بوصفها عملية لتبادل البضائع فقط، بل محفزاً لحركة الناس، ولانتقال التوجهات والأنماط، ولتبادل الموضات والخبرات".
ولعٌ وانتقائية
تشير المؤرخة المصرية (الصورة) إلى دراسات فرنسية بدأت بعد حملة نابليون عُرفت بـ"الولع بمصر"، خُصّصت لاستكشاف التاريخ المصري القديم. ترك هذا الولع بصماته على معظم الفنون الفرنسية؛ الأثاث والرسوم والأزياء، وفقاً لـ حنّا، جرى في المقابل إهالة التراب على القرون السابقة للحملة، رغم أنها، بدءاً من القرن الـ 16- شهدت اهتمام الفرنسيين بنقل صناعة المنسوجات من الحرفيين المصريين وأجزاء أخرى من الدولة العثمانية.
المصدر: العربي الجديد - محمود عاطف
↧