لماذا يأكل البشر اللحوم؟ وهل كانوا دائما هكذا، وهل سيبقون؟
سؤال لطالما طرحته البشرية على نفسها، وما تزال، خصوصا بعد انتشار وباء "البقر المجنون"، واقتناع أعداد متزايدة من الناس بمساوئ الحمية المتبعة في معظم البلدان المصنّعة، حيث للّحوم حصّة الأسد. ففي الغرب، تتكاثر الكتب والبحوث والأعمال الداعية إلى الامتناع عن أكل البروتينات الحيوانية، والتحوّل إلى المصادر النباتية للغذاء، إلى جانب اهتمام باحثين وفلاسفة وكتّاب معروفين بتناول هذا الموضوع من مختلف زواياه، وبالتحديد من زاويته الفلسفية التي تُسائل الإنسان حول حقّه في قتل مخلوقات حية بأعداد هائلة تفيض عن حاجته الفعلية إليها، وبشروطٍ مخيفةٍ، تتميز بسوء المعاملة والقسوة والاستمرار في اعتبار الحيوان، كما صوّره ديكارت، شيئا خاليا من أي إحساس أو روح.
من أهم الأعمال التي صدرت حديثا، محاولة الردّ على هذا السؤال، هو بحث للفيلسوفة والباحثة الفرنسية، فلورانس بورغا، بعنوان "البشرية آكلة اللحوم"، صدر في 450 صفحة عن دار لوسوي. تقول الكاتبة في مقدمة الكتاب: "ما نرمي إلى فهمه، بعيداً عن طبقات الشرح من نوع البحث عن مصادر غذائية، أو الاحتياجات الغذائية لمنطقةٍ ما، لمناخ معين أو لطريقة عيش، أو العادات الثقافية، أو المذاق الطيب ومتعة الأكل، إلخ، هو سبب إرساء فعل أكل اللحوم (...) ينبغي الذهاب من اللحوم إلى الأفراد التي تتحدّر منها تلك اللحوم، وإدراج هذا البُعد – الفرد الذي أقتلُ لكي آكل – في قلب تلك المتعة". هذا وترى الباحثة أنه لا يمكن الاكتفاء بالإجابة "لأن اللحم لذيذ"، إذ يمكن الردّ حينئذ بأن لحم الإنسان لذيذ أيضا، ومع ذلك فإن أكله محرّم. لقد وُجدت في التاريخ، وما قبل التاريخ، حمياتٌ غذائية لا لحم فيها، أو أنه كان ضئيل الأهمية، لذا وجب ربما مساءلة الأساطير والطقوس على اختلافها، والأسس الأنثروبولوجية لاستهلاك اللحوم، بما تستدعيه من قسوة، ومن رغبةٍ في القتل وتقطيع الأوصال وأكل كائنات حية، وذلك كله لكي تؤكّد الإنسانية لنفسها تفوّقها على الحيوانات.
على صعيد آخر، تشير الباحثة إلى أن حبّ اللحوم مستندٌ إلى أسطورة متجذّرة في الخيال الجماعي: إنها صورة إنسان الكهوف الذي رُفع إلى مصاف صيّادٍ كبير ومستهلكٍ للّحوم فقط، إذ كان ما يتبقى من وجباته هو العظام، من دون النباتات التي كانت تفنى بطبيعة الحال. أما اليوم، فإن العلماء يؤكدون أن رجل الكهوف كان يقتات من بقايا ما يصطاده الحيوان، ومن البزّاق وكل ما كان يقع تحت يديه، وأن صورة الصياد ليست أكثر من خرافة. بالطبع، لقد تغذّت سلالته باللحوم في مختلف الأمكنة والأزمنة، باستثناء تجارب نباتية هنا هناك، (الهند، اليابان، الصين وكوريا). وعلى الرغم من أن أكل اللحوم لا يشكّل فعلا ضرورة حياتية، بسبب تنوّع الأغذية الأخرى ووفرتها، فإن الثابت هو صيد الحيوانات وتربيتها، من أجل قتلها وأكلها، حفاظا على استمرارية علاقة القتل مع الحيوانات.
لا يستوعب عددٌ كبير من الأشخاص ما يفترضه أكلُ اللحوم، أي قتل حيواناتٍ لا ترغب بالموت، وهذا معناه أن كلمة "لحم" تجعلنا نستبدل واقعاً بآخر، متفادين مثلا النظر إلى قطعة ستيك على أنها جزءٌ من جثة حيوان. لذا تتعجّب الكاتبة التي اعتمدت النظام الغذائي النباتي منذ أكثر من ثلاثين عاما، بعد أن شاهدت فيلما مصوّرا داخل مسلخ بقري، كيف يستمرّ الناس في أكل لحوم الحيوانات، وهم يعرفون ما يعرفون، وكيف لا يتحوّلون إلى نباتيين، مشيرة إلى أن في اللحوم التي يتم تصنيعها "إن فيترو" قد يكمن خلاص البشرية والحيوانات على السواء...
لقد اعتبر عالمُ الاجتماع الفرنسي، كلود ليفي شتراوس، أن الغرب باشر دورة ملعونة ملائمة لممارسة أبشع أنواع الإقصاء وأحقرها، من خلال الفصل بين البشرية والحيوانية، بشكل جذري. وعليه، أفلا يكون ممكناً الجمع بين ضرورة احترام حق الحيوان القائم على أعمدة ثلاثة: عدم قتله من دون سبب، عدم أسره، وعدم تعذيبه، وقبول مصير الإنسان الحتميّ كآكل لحوم؟
المصدر: العربي الجديد - نجوى بركات
↧