الطائفية
عندما يكبر الألم من الواقع نهرب للذكريات....
في نهاية الثمانينات ذهبنا في رحلة لزيارة "بمنة" وهي قرية صغيرة وادعة في ريف من أرياف طرطوس، تبعد عن دريكيش مسافة جبلين وبضع قطع من رئتي، قطع كنت أبصقها مع السعال الذي سببه التدخين بينما أتسلق الجبال وأحاول اللحاق بالأصدقاء الذين كانوا كالماعز الجبلي يسبقوني بمئات الأمتار ويتضاحكون على قلة لياقتي.
بدايةً انطلقنا من قرية تحتوي آثاراً أراميه ومعبد فيه تأثيرات فينيقية وهلنستية هو حصن سليمان يعتقد أن سكان أرواد بنوه للإله بيتو خيخي... "ولا حدا يسألني مين بيتو خيخي لأن الويكيبديا هيك عم تقول..... "
أهل المنطقة اعتبروا أن الأحجار الهائلة التي تشكل جدران المعبد لا بد أن يكون الجان قد ساعدوا سيدنا سليمان على حملها لهذا السهل لأن بعضها يزن أكثر من 70 طناً...
من حصن سليمان وبصعود الجبل هناك مقام صغير اسمه مقام حسن الصويري، هو شيخ مقدس عند أتباع الطائفة العلوية الكريمة... يزوره الناس للتبرك به ويتبرعون له بقليلهم الذي يملكون، من يقومون على الاعتناء بالمقام يطهون الطعام في مناسبات معينة ويقدمونه لعابري السبيل وللزوار... وعادة يكون الطعام برغلاً مع مرق ما... شيء مشابه لطعام الجيش والفقراء.
من حسن الصويري ومن قرية حصن سليمان "بالمناسبة الاسم الحقيقي للقرية هو الجرينات ولكن النظام عدل أسماء بعض القرى فصار وادي النصارى وادي النضارى، المزيبلة مزينة والخريبة الناصرة... الخ"
بعض القرى أساء لها هذا التعديل ففقدت الاسم الذي قد يعود بأصوله لجذور فينيقية... ما علينا، تابعنا المسير إلى بمنة التي قضينا الليلة فيها وشاهدنا دوير رسلان ودريكيش وانتهينا بصافيتا.
طبيعة خلابة وثلاثة أنماط معمارية تزين المكان....
مبان أثرية تنمو عليها الطحالب، كحصن سليمان وبرج صافيتا.
بيوت من الحجر والطين تتلاصق لتشكل القرية، شجرة جوز قديمة تنموا وسط الطرقات التي تتلوى كالثعابين بين البيوت التي تتلاصق بحميمية، بيوت غرفها باردة ودهان جدرانها يتقشر حزيناً فقيراً.... لكنها مليئة بالكرم والحب.
وقصور إسمنتية فارهة مرصعة بالرخام نمت في السنوات الأخيرة بين الجرود وعلى قمم الجبال تعود ملكيتها لضباط النظام الكبار... قصور تخلوا من الحب ومن الجمال... وغالباً من السكان لأن أصحابها يبقون على رأس عملهم حتى يكون قضاء الله فتبقى القصور الفارهة مهجورة إلا من عناصر الحراسة والخدم الذين يلمعون رخامها تحسباً لزيارة مفاجئة من الضابط الكبير الذي تنتابه بين الفينة والأخرى نوبة حنين مفاجئ.... فيزور القرية ويأكل البرغل المسلوق في مقام الصويري ليتبارك به ويقضي الليل في القصر الذي بناه ليكون صرحاً حضارياً ينافس به الآثار ويتعالى عن فقر القرية التي نشأ بها..
الفقر الذي طغى على المناطق العلوية كان مخيفاً، اعتمد النظام سياسات زادت في إفقار هذا الريف لتدفع بشبابه الذين لم يتمكنوا من الهروب للعلم والتحصيل للالتحاق بالجيش حالمين بمغادرة القرية الفقيرة لقمة جبل مجاور يبنون عليه قصرهم.
في بداية عقد التسعينات التحقت بالجيش، خياري كان البقاء كعشب الأرض، لذا توجب عليّ أن أنهي خدمة العلم....
في دورة الأغرار ساعدني الحظ السيء أو الجيد لأصبح أسبوعي الدورة...
وصلت مدرسة المشاة وقد رسم لي صديق مهندس خارطة للمدرسة، سور المدجنة والحفرة التي نحتت في الجدار للهروب، وطاقة أبو أحمد التي تؤدي لكشك صغير يبيع لوازم المجندين ويمكن استخدمها للهروب أيضاً...
لضيق ذات اليد كانت مدة دورة الأغرار بالنسبة لي 52 يوماً لأنني لم أرغب في الهرب رغم محاولات الضباط التخلص مني... هم ببقائي كانوا مجبرين على البقاء في المدرسة في فترة العطلة الأسبوعية بين الدورتين..
قضيت الأسبوع الأول في مهجع الدورة السابقة لدورتي "مهجع الحبقات" وهم إخوتنا من الموحدين الدروز، تعلمت طقوسهم وعاداتهم، قصصهم وأهازيجهم... النشيد الوطني يا ديرتي يا ديرتي "كان ينشده أبو فهد قبل النوم"، تعرفت على شاب من مَلَح "ديار البطل..." وكانت قصص حبقة النعيم وسوريا نصر من أطرف ما سمعت وحق الخمس حدود.
قضيت يومين كمجند وحيد بين خمسة ضباط قهرهم هذا "الشامي الحيوان" الذي لم يهرب، حاول أحدهم أن يشرح لي أن الهروب قبل دورة الأغرار لن يؤدي لعقوبة سوى زحف وحلاقة وأنني سأعاني خلال هذه الأيام ما هو أسوأ، وحاول أن يدلني على طريقة الهروب....
- سيدي بعرف سور المدجنة وطاقة أبو أحمد.
- أي لكان شو ناطر.
- سيدي ما معي غير ميت ليرة حق دخان وأجرة المواصلات للشام بعد ما تخلص دورة الأغرار.
- روح انقلع.
سخرني الضباط لشراء السندويش، إحضار ضابط من أخر المدرسة ليكون شريكاً رابعاً للطرنيب، وصار اسمي النظامي عندهم "تكسي الغرام"، عند قدوم المجندين الجدد بعد أيام صرت أدلهم على مكان استلام العهدة، احذرهم من ضابط نزق، من مساعد المهمات اللص الذي قد ينقص من عهدتهم شيئاً ما... البعض كان شاكراً والبعض الأخر منحني لقب "شمبر الدورة" وهذا اللقب يعني أول حمار التحق بالدورة ولم يهرب...
لا أدري كيف ولكن بقدرة قادر تحولت من "شمبر" الدورة لأصبح أسبوعي الدورة...لم أتردد في تقديم الصف للضابط المناوب وصرت أسبوعي الدورة لمدة 45 يوماً دون قرار تعيين أو انتخابات... بطريقة الاصطفاء الطبيعي... ربما بسبب الطول والصوت الجهوري.
في منصبي القيادي عملت على مساعدة الشباب في توزيع المهاجع... لكن مبدأ الاصطفاء الطبيعي فرز الموزاييك السوري بطريقة فريدة، فكان هناك مهجع لبني معروف، مهجع الساحل، مهجع الحموية، مهجع الحلبية والأدالبة، مهجع الحوارنة والبدو والشواييا...
مهجعي كان فريداً، 2 شوام... نزحا تجاهي باعتباري شامياً، 2 مسيحية... فضلوا القرب مني... ربما لأني أشقر وشامي وأسبوعي، واحد من بني معروف من صلخد من العيون، وشاب من جبلة - الشراشير... كان أفضل من أدى طل الصبح وتكتك العصفور.... قبل النوم..... باستثناء مهجعنا مهجع من كل قطر أغنية قام الاصطفاء الطبيعي بتشكيل بقية المهاجع التي كانت تمثل الموزاييك السوري حقاً ولكن كل موزاييكه بمهجع لوحدها.
كأسبوعي كان علي جمع الدورة للعقوبات المسائية الغير مبرمجة... أدخل المهاجع لدعوة الشباب للعقوبة المسائية..
- يا شباب بسرعة اليوم النزلة عا السبعة... شوية رياضة وترديد شعارات بصوت عالي وبنرجع للنوم... الملازم محمد راجع سكران...
في مهجع الساحل كان هناك شاب قريب لضابط كبير في الجيش... قائد فرقة ربما.... من بيت عباس ولكنه كان يلفظ اسمه بلهجة مبالغ فيها ليؤكد انتمائه الإقليمي "عِبَّاس".... كنت مثل الغالبية أتحاشاه لأنه مدعوم للغاية، بعد أن طلبت من الشباب في مهجعه بود ولطف التجمع قبل السابعة بقليل...
"جقرلي"
وقال بلهجة فيها الكثير من التكبر والقليل من الاحترام...
- "ها أسبوعي منين هنت؟"
قلت له من الشام.
- كلكن منايك يا أهل الشام.
طبعاً تأثير الصدمة لم يكن كبيراً لأن مثل هذه الإهانات متوقعة من شخص مدعوم مثل الأخ، لكن كرامتي نزت علي لأرد السؤال:
- وأنت منين يا حضرة التلميذ؟
- من طرطوس... كان ينتظر رد الإهانة ربما....
- منين من طرطوس
- من قرية بقضا الدريكيش
- منين من الدريكيش
- من قرية اسمها حصن سليمان.
- حصن سليمان....؟؟؟ سألته وقد تذكرت رحلتي قبل سنوات للمنطقة.... خلال ثواني تذكرت جدران المعبد والجبال الجميلة.
- أي حصن سليمان قرية فيها أثار..... لم أدعه يتابع كلامه فقاطعته
- هنت من الجرينات ولاا
قفز كمن قرصه ثعبان غير مصدقاً أن يعرف الشامي "المنيك" اسم قريته الذي لا تذكره الخرائط.
- منين بتعرف الجرينات؟؟؟
- ولك حِيوان أنا أكل برغِل عند سيدي حسن الصويري....
كان يقفز من مكانه وهو يردد:
- يلعن ربكين يا أهل الشام، وصلتوا لحسن الصويري.
الطائفية التي نزعم أنها لم تكن موجودة، هي جزء من تركيبتنا ومن تراثنا الشفوي وانتمائنا لمجتمعنا الضيق، البديل عن العشائرية العروبية الراسخة في بنية عقلنا المتشكل من القبيلة والغنيمة والعقيدة كما يقول الجابري عليه رضوان الله.
نبهني صديق لمقال ياسين الحاج صالح الذي يصرح فيه أخيراً باتهام علني للكاتب حكم البابا بالتحريض على خطف سميرة الخليل ورفاقها... بدافع طائفي...
استغربت تأخر هذا المقال لينشر يوم البارحة 15 آذار على موقع الحوار المتمدن.... بعد أكثر من ثلاثة سنوات على الاختطاف حيث تم اختطاف الأربعة مطلع شهر ديسمبر 2013....؟
قرأت مقالات للحاج وأخرين بعناوين مائة يوم على خيانة الثورة، ثلاثة أشهر على اختفاء...، عشرة أشهر، عامين...، ثلاثون شهراً...، ومؤخراً في الشهر الماضي في مقاله "تجربة الغياب" يذكر زوج المختطفة 1155 يوماً على الاختطاف....
الآن اكتشف حكيم الثورة أن التحريض تم لاختطاف سميرة ورفاقها بسبب الانتماء الطائفي..... بعد أن جُمعت أوراقها ونُشرت، وتُرجمت للإسبانية.
لِمَ لم يشم حكماء البلد الروائح الطائفية قبل اليوم؟؟؟
ألم يعرف من تكلموا عن أن الشعب السوري ليس طائفياً كالشعب اللبناني، وأن التدين السوري السمح هو أبعد من أن يحول الأمور لتصبح حرباً طائفية... أن الجمر متقد تحت الرماد منذ أربعة عشر قرناً...؟
النظام لعب بالتأكيد الورقة الطائفية، وورقة الأقليات وتخويفها من البعبع السني القادم.... لكنه لم يكن طائفياً... النظام طائفته هي الفساد، لذا تجد أن رجال الأعمال من مختلف الطوائف بنفس القذارة، عناصر الأمن والجلادين من كافة أطياف الموزاييك السوري....
بينما لعبت المعارضات على الورقة الطائفية لأن التمويل كان مشروطاً بتسمية أسماء أيام الجمعة والكتائب.... فجأة تذكر البعض أن أصلهم تركمان.... واكتشفنا أن تركمان سوريا يفوقون عدداً الأكراد والعلويين والمسيحيين مجتمعين...
لعبت المعارضات بالشباب الذين بدأوا الحراك وتاجرت بمصائرهم، الشباب الحالم الذي خرج برومانسية يقدم الورود لجنود الجيش.... الشباب الذين غُيبَ من غُيبَ منهم، ومات من مات، وخطف من خطف، وتدعوش من تدعوش.
بيان كيلا يتم فهمي خطأً:
أنا بسخريتي من الموت أسخر من موتي أيضاً.
أنا أدين الاختطاف، وأتمنى أن يكون الأربعة ما زالوا على قيد الحياة.
وأدين المخبر الطائفي الذي حرض ضد الأربعة كائناً من كان.
أدين أي تصرف طائفي حتى لو كان من طائفتي السنية الكريمة.
كما أدين كل من روج لحمل السلاح بغباء "مقصود أو غير مقصود".
أدين كل من لم ير إلى أين نحن نتجه وساعد "بالفعل أو القول أو الفسبكة" على صب الزيت على سعير النار التي تحرقنا.
لا أساوي بين الضحية والجلاد إلا يوم تنقلب الضحية لتصبح جلاداً... عندها أدينها رغم تفهمي لِمَّ حدث هذا الانقلاب....
أدينهم جميعاً لأن الموت هو خبزنا اليومي للعام السادس الذي قارب على الانتهاء..
إياد الغفري - ألمانيا
16 آذار 2017
↧