باصاتٌ خضراء اللون، ووجوهٌ بائسة تلملم لحظاتها الأخيرة قبل أن تغادر المكان الذي تنتمي إليه، ربمّا إلى غير رجعة، لكن هذه المشهد ليس من حيفا أيام النكسة، وإنّما من سورية أيام الثورة، في لحظة تهجير سكّان حي الوعر، بعد أن خرّت قوى المدنيين داخله تحت وطأة القصف العنيف والحصار الشديد، لينتهي بهم المطاف بالخروج على دفعات نحو الشمال السوري، تاركين خلفهم ذكرياتهم أو ما بقي منها داخل الحي المكلوم.
"العربي الجديد" يرافق الدفعة الأولى من سكّان حي الوعر الذين هُجّروا اليوم تجاه ريفي حلب وإدلب شمالي سورية عقب سنوات من الصمود تحت نار الحصار، إذ تشمل هذه الدفعة من المهجّرين 1500 شخص، 450 شخصاً منهم من المقاتلين وعائلاتهم والبقية من المدنيين الذين رفضوا البقاء هناك، وذلك بموجب اتفاقٍ مع النظام السوري برعاية روسية.
في إحدى ساحات الحي تتجمهر الدفعة الأولى من المهجّرين، يحملون ما أبقاه الحصار لديهم من حاجياتهم في حقائب صغيرة، منتظرين الحافلات الخضراء التي ستنقلهم، بينما تحدّق عيونهم نحو كل تفصيلةٍ من تفاصيل الركام حولهم ليتمكّنوا من تخزين ما يُتاح لهم من صورٍ عن واحدة من كُبرى الجرائم المعلنة في القرن الحادي والعشرين.
يقف شابٌ يافع على أحد الأرصفة أمام الباصات ويتحدّث لكاميرا "العربي الجديد" قائلاً: "بقينا أربع سنوات تحت الجوع والقصف، كُنّا دون مواد غذائية ونُقصف بكل أنواع الأسلحة المتاحة لدى النظام وروسيا، ثم يتم تخييرنا بين تدمير الحي على رؤوسنا أو التهجير".
يتنهّد قليلاً ثم يضيف وملامح الحزن تعلو محياه: "سوف نلم بعضنا البعض ونعود إلى حمص فاتحين"، ثم يصعد في حافلة التهجير بعد أن ينهي حديثه.
على الضفّة الأخرى من "ميدان التهجير" ذاته، تعود بك حالة الفوضى والعجلة نحو صفوف المدنيين إلى المسلسلات التي كانت تعرضها الدراما السورية عن عمليات التهجير من حيفا ومدنٍ فلسطينية أخرى، لكن يبدو ألا أحد من هؤلاء المدنيين قد استوعب صدمة أن يرى تفاصيل المكان الذي نشأ فيه للمرّة الأخيرة.
يقول أحد ضحايا تهجير دفعة اليوم لـ"العربي الجديد": "حالياً يتم تهجيرنا من الحي، ولم يستطع أي أحدٍ إنقاذنا"، ثم يضيف: "منذ أربعة أشهر نتعرّض للقصف بكل أنواع الأسلحة فليس ثمة نوع سلاح إلا وتم قصفنا به، فيما فشلت الهدن مع النظام وفشل جنيف"، متسائلاً: "لماذا لم ينقذنا أحد من التهجير؟ قبل أن يجيب بنفسه على سؤاله بأن جميع الدول خذلت المدنيين في حي الوعر".
قبل الصعود إلى حافلات التهجير بدقائق، يُلقي ضحايا التهجير نظرتهم الأخيرة على تفاصيل الحي، تبدأ حالات العناق بين من هُجّروا وبين من بقوا، فالتهجير لم يخرج الناس من بيوتهم وحسب، وإنّما فرّق العائلات عن بعضها البعض، وقسّمها بين الوعر وجرابلس وإدلب.
يقول مهجّر آخر لـ"العربي الجديد": "نحن اليوم نودّع حيّنا مجبرين على التهجير بسبب الضغط من العدوان الروسي الذي استخدم القصف العنيف خلال الأشهر الماضية على جميع المناطق في الحي بالصواريخ الارتجاجية والأسلحة الثقيلة"، ويتابع: "كل المؤتمرات كانت على حساب دماء الشهداء المدنيين".
يصعد المهجّرون إلى الحافلات لتبدأ مراسم الوداع الأخيرة من النوافذ، في مشهدٍ يذكّر بمن هُجّروا من داريا والمعضمية ووادي بردى وشرق حلب وزاكية وخان الشيح، فالجرح واحد لدى الجميع والمجرم واحد هجّر الجميع.
في داخل إحدى الحافلات، جلس طفل يتلعثم في كلامه قائلاً لـ"العربي الجديد": "طلعونا من الحي غصب عنّا، وما عاد نقدر نروح على مدرستنا"، ثم تبدأ الحافلة بالتحرّك قبل أن يُنهي الطفل كلامه، ليمرَّ على الأحياء المجاورة للوعر، والتي باتت غريبة بالنسبة لأبناء الحي الذين لم يعرفوا شيئاً عن تفاصيل العالم الخارجي خلال السنوات الماضية.
المصدر: العربي الجديد - عمار الحلبي
↧