الناخبون يريدونها متطرفة إلى أي حد خسر فيلدرز؟ الرهان الشعبوي في أوروبا
مسلمو هولندا غرباء، وعليهم الاختيار بين الاندماج أو الرحيل. ليس السياسي المتطرف خيرت فيلدرز من أطلق هذه الأوصاف، بل جاءت في الواقع ضمن مقابلة صادمة أجرتها صحيفة "ألخمين داخبلاد" الهولندية مع رئيس وزراء البلاد "المعتدل" مارك روته في أكتوبر/تشرين الأول 2016.
ومع ذلك، فقد انطلقت أنفاس حبيسة بعد ظهور نتائج الانتخابات الهولندية (15 مارس/آذار الجاري)، عندما بدا واضحاً أنّ السياسي المتطرف خيرت فيلدرز لم ينتصر في الجولة الساخنة، وهذا بعد إقبال مذهل على التصويت للاختيار بين عدد قياسي من الأحزاب المتنافسة، ولكن هل خسر فيلدرز حقاً؟
بدا منطقياً أن يحتفي أطراف كثيرة بما رأتها نهاية سعيدة لمعركة انتخابية مصيرية، ومنهم قادة المفوضية الأوروبية الذين خفقت قلوبهم ثم أطلقوا تغريدات تقاسموا فيها التهاني، وأشادوا "بما أبداه الهولنديون من وعي نحو دورهم في أوروبا موحدة" التي يعارضها فيلدرز، لكنّ النظرة الفاحصة تمنح انطباعات في اتجاهات أخرى.
صحيح أنّ فيلدرز لم ينجح باكتساح الانتخابات؛ لكنه كان -عبر السنوات الأخيرة- رجل المرحلة في هولندا بلا منازع. تعجز الجمهرة اليوم في أوروبا والعالم عن استرجاع اسم سياسي هولندي آخر، لأنّ فيلدرز تحديدا هو من أصبح وجه مملكة الأراضي المنخفضة المعروف لدى الخارج، وليس رئيس الوزراء مارك روته أو الملك المتوّج فيليم ألكسندر.
بيد أنّ المعضلة ليست في الشهرة، وإنما في مفعول الهوس الشعبوي الذي لا يقف عند حدود نتائج الاقتراع. وينبغي الاعتراف بأنّ فيلدرز تعبير عن ردّة قيمية، وقد أشعل حرائق مجتمعية رمزية في هولندا، ودفع باتجاه تأزيم شديد الوطأة مع الاتحاد الأوروبي وتركيا والعالم الإسلامي.
ويكمن المأزق الأخلاقي في أنّ هذا كله جرى على مرأى من طبقة سياسية هولندية وأوروبية لم تواجه هذا الهوس بالصرامة الأخلاقية، فأفسحت له المجال عملياً كي يتمدّد، لأنها تخشى أساساً خسارة جمهور الناخبين الذين تجتاحهم الهواجس، وينتابهم الذعر بعد تضخيم الوعي بملفات الإرهاب واللاجئين ومزاعم أسلمة أوروبا.
أما المجتمع المدني الهولندي الفاعل -بمنظماته ونقاباته وقواه الحية- فلم يكن حاضراً لاحتواء الحمى المستشرية، وبدا متراخيا معها، باستثناء صرخات متفرقة من أوساط حقوقية وخبراء ومعلقين، يعيش بعضهم رهبنة أكاديمية معزولة عن الشاشات وشبكات التواصل الاجتماعي.
الناخبون يريدونها متطرفة مع فتح صناديق الاقتراع؛ تصدّر حزب رئيس الوزراء في جولة الانتخابات البرلمانية الصعبة، لكنّ ذلك وقع بعد أن اغترفت حملته الانتخابية قدراً محسوباً من خطاب الكراهية لاستمالة ناخبين "يريدونها متطرفة". هكذا أطلق مارك روته تصريحات وإيحاءات غير المسبوقة ضد مواطنيه المسلمين، وحرص على الظهور في هيئة الفارس الذي يتصدى لمبارزة تركيا.
كانت هذه محاولة لخوض صراع رمزي يهدف لحرمان فيلدرز من مكانة البطل المخلِّص الذي سيتولى إنقاذ الأمة الهولندية من الغزاة. وكانت جرعة تطرف محسوبة من رئيس الوزراء الهولندي، لكنها مشفوعة بكلمة سرّ حسمت الموقف الانتخابي: على الهولنديين أن يختاروا بين الاستقرار معه والفوضى مع غيره.
ما شهدته هولندا -عبر شهور مديدة- هي معركة انتخابية مدفوعة بالهواجس ومفتقرة إلى العقلانية، حتى إنها انشغلت بقضايا افتراضية تدور حول أوهام متعاظمة بشأن الهوية، وأساطير منسوجة عن الإسلام، وقضايا مفتعلة عن الغزاة القادمين من الخارج.
أظهرت الانتخابات الهولندية مجددا أنّ جولات الاقتراع الديمقراطي أصبحت مواسم مفضلة لتصعيد العنصرية الانتقائية ومواصلة الشحن ضد القيم.
وما ينبغي إدراكه أنّ النبرة العدائية التي يسددها قادة اليمين المتطرف إلى الاتحاد الأوروبي مدفوعة أيضا بخشية التقيد بالتزامات قيمية ومبدئية يتباهى بها الاتحاد، ويملك بموجبها توجيه انتقادات لدوله الأعضاء كما يجري مع المجر، أو فرض عقوبات عليها كما جرى مع النمسا.
وبهذا فإنّ تنديد أقصى اليمين الشعبوي بأوروبا يستبطن إرادة التملّص من القيم والشعارات المبدئية بهدف الردّة إلى الماضي المتخيّل والمجرّد من الالتزامات.
وتتجلّى مثلا تعبيراتٌ من قبيل العودة إلى الأمة واسترجاع الهوية واستعادة المجد والعظمة، لتكون كنايةً عن مخاطبة نزعة الحنين إلى الماضي، وسط قلق تم تضخيمه من الحاضر، وهلع متفاقم من المستقبل.
إنه ماضٍ لم يكن فيه كل هؤلاء الذين تتنوع ألوانهم ولكناتهم، ولكنه الماضي الذي سمحت فيه هولندا لنفسها بأن تحكم أمماً أخرى ببالغ القسوة، ومنها إندونيسيا التي هي أعظم أمة مسلمة.
ولو أنّ هولندا أعادت كتابة تاريخها على الملأ، وحاكمت أخلاقيا وأدبيا قرون الاستعمار الذي خاضته بكل ما تخلله من استعلاء واستغلال وفظائع عبر العالم؛ لكانت أقدر على أن تكبح فيلدرز ومنافسيه الذين كان عليهم أن يلوذوا بالخجل، وأن يخرج الشعب في مواجهة هوسهم العنصري.
ويجوز القول إنّ خسارة فيلدرز الانتخابات تكون مؤكدة إن قررت الطبقة السياسية الهولندية -وعلى رأسها من سيشغلون مقاعد الحكومة- خوض معركة استدراك أخلاقي جاد لكبح هذا التدهور القيمي، ولاسترداد عافية المجتمع وتماسكه، وإطفاء الحرائق التي أشعلها الهوس السياسي في الداخل والخارج.
واقع الحال أنّ الناخبين الهولنديين ظهروا في نهاية المطاف أكثر رشداً من توقعات السياسيين الانتهازيين منهم، لكنّ ذلك لا ينفي خطورة الصراع الدؤوب الذي سيستمر على المخزون التصويتي الذي تجتاحه الهواجس، فلن يكفّ السياسيون عن تملّق ناخبين تتملكهم مخاوف غير واقعية.
وإن قرّر فيلدرز التوبة عن خطاياه نحو القيم والأخلاق والمبادئ الدستورية فسيكون الموعد مع وجوه جديدة مطوّرة عنه. سيظهر سياسيون يسعون لاصطياد الأصوات الكثيفة من مستنقع التطرف الآسن، عبر شعارات ليسوا مقتنعين بها غالباً.
إلى أي حد خسر فيلدرز؟ إنّ الزعم بأنّ فيلدرز خسر الانتخابات الهولندية يبدو متسرعاً. فهذه الشخصية غير النمطية لا تُقاس أساسا بالأبعاد السياسية التقليدية للربح والخسارة، كما أنّ الحالة الشعبويةالتي تقوم على أسلوب حزب الرجل الواحد لا تجد سعتها في العمل البرلماني، بل تتخذ البرلمانَ منصّة للشحن والتعبئة والاستفزاز نحو المجتمع والخارج.
ففي المجلس النيابي ذاته أقدم فيلدرز على تمزيق علم المملكة العربية السعودية بهدف إهانة الإسلام والمسلمين، وفيه أيضاً جعل علم الاتحاد الأوروبي خرقة بالية، واستخرج نجمة واحدة منه كناية عن مسعاه لإخراج هولندا من الاتحاد.
أما خارج البرلمان؛ فقد ظل فيلدرز يخوض جولاته في المنصات والميادين، علاوة على هواية التحريض عبر الشبكات الاجتماعية، ثم لم يُظهر انزعاجاً من مثوله أمام القضاء لمواجهة دعاوى تطارد خطابه العنصري بحق المغاربة مثلا.
إنّ نموذج فيلدرز وحزبه الموسوم "من أجل الحرية" هو حالة تستثمر ببراعة في زمن الصورة والمشهد، حتى إنه تحديدا من سبق في سنة 2008 إلى إنتاج فيلم دعائي لاستفزاز مشاعر المسلمين اختار له عنوان "فتنة".
كان العمل الرديء وقتها شبيها بأفلام ينتجها تنظيم القاعدة، وهدفه حينها كان إشعال حرائق ثقافية عابرة للقارات بتأثير مشابه لمفعول رسوم الكراهية التي نشرتها صحيفة "يولاندز بوسطن" الدانماركية سنة 2005. لكنّ ذلك لم يقع لأنّ مسلمي هولندا وأوروبا تجاهلوه ببساطة، بل عمد بعض الشبان مثلا إلى إنتاج أعمال ساخرة في محطات هولندية للرد عليه ببراعة.
في الجولة الأخيرة استغل فيلدرز انتخابات 2017 لإطلاق أوسع حملة كراهية في هولندا، كما ساهم في حفلة استفزاز المواطنين الهولنديين من أصول تركية كي يظهروا ملتصقين بتركيا وغير منتمين إلى هولندا التي نشأ فيها آباؤهم، ومن الواضح أنه نجح في ذلك بصفة مذهلة.
لم يتصدر فيلدرز بالأصوات، لكنّ تأثيره السياسي يبدو ماثلا للعيان عبر تعزيز منحى الانزياح نحو اليمين، الذي فرض على أحزاب الوسط أن تندفع لاسترضاء الناخبين الحانقين ولو بالصمت على فيلدرز، وأن تعمد الأحزاب الحاكمة إلى التشدد في سياسات متعلقة بالمسلمين واللاجئين تحديدا.
فلا يعني عدم انتخاب فيلدرز سقوط بعض مضامين شعاراته التي يجري تطبيقها بلا هوادة في هولندا ودول أوروبية على أيدي أحزاب موصوفة بالاعتدال، فالآخرون معتدلون وفوق مستوى الشبهة المتطرفة لمجرد أنّ أدواتهم ناعمة ومعقلنة الأسلوب، بالمقارنة مع هوس فيلدرز الذي يتصدر المشهد.
الرهان الشعبوي في أوروبا برزت محطة هولندا اختباراً لأقصى اليمين الشعبوي الذي يتحلى بثقة غير مسبوقة في المنصّات الديمقراطية الأوروبية، في سنة الانتخابات التي تشهد سخونة خاصة في محطات متلاحقة بدءاً من فرنسا.
ومن الواضح أنّ النتائج الهولندية خيّبت بعض آمال قادة الأحزاب التي تستعمل الهوس والتشنج أسلوباً في الصعود السياسي عبر القارة القلقة، وإن اعتبروا -في تصريحاتهم- نتائجها نجاحاً.
واقع الحال أنّ الرهان الشعبوي ينعقد على اختزال المشكلات وافتعال القضايا في اتجاهات غير واقعية، واجتراح حلول سطحية ساذجة مع كثير من الحدة والقسوة في خيارات المعالجة. وبهذا تبقى للتطرف فرصٌ سخية إن ظل متمترسا بالمعارضة، لكنه سيواجه مأزقه الحتمي مع شعاراته إن صعد إلى الحكم وأراد تطبيقها بجدية.
فكيف ستبدو هولندا هذه عندما تنغلق على العالم وتعلن العودة إلى الماضي؟ وأي ماضٍ هذا تحديدا الذي يمكن العودة إليه بكل ما تخلله من ملابسات وأعباء وحرائق وانقسامات في أوروبا ذاتها؟ وأي أزمات مجتمعية سيشعلها التطرف إن أمسك بالقرار مباشرة وباشر استبعاد بعض المواطنين من امتيازات المواطنة؟
وماذا بقي من تراجعات واقعية لم يقع تطبيقها أساسا في ملفات الإسلام والمسلمين واللاجئين والاحترازات الأمنية، بعد كل القيود والانتكاسات التي جرت تحت رعاية حكومات موصوفة بالاعتدال منذ سنة 2001؟
إنّ المفعول المؤكد للتطرف السياسي في أوروبا اليوم هو تسخين الخطاب المتشنج في المعارضة، وشحن الجماهير وتعبئة النزعات البدائية في أوساطهم، والضغط باتجاه إحداث تراجعات عملية غير مباشرة في ممارسات الحكم، وهذا كله على حساب المواطنين الأوروبيين المسلمين، وكذلك بؤساء الأرض الذين يلتمسون في أوروبا فرص الحياة والحماية.
سيبقى على التطرف أن يعتدل إن أراد الحكم، أو أن يتمسك بنهج المفاجآت الصادمة على طريقة دونالد ترمب في إعادة إنتاج أميركا. ولكن هل تحتمل أوروبا اليوم نماذج متعددة الوجوه ومتفرقة الأهواء من سيد البيت الأبيض الجديد؟
المصدر: الجزيرة نت