أكثر ما يخيفنا في الحياة هو الوحدة. شعور مرتبط في معظم الأحيان بمشاعر حزن وقلق وإحساس بالإهمال وبأننا غير محبوبين أو ذات قيمة. شعور يولّد أحاسيس خوف وارتعاش تصل في بعض الأحيان إلى المرض وفقدان المناعة، وكأننا دون وجود أشخاص آخرين في حياتنا ودون البقاء على تواصل مستمر معهم، نكون ناقصين غير مكتملين.
يأتي المجتمع أيضاً ليكرّس مفهوم الوحدة على أنها العدو الأول للإنسان ويشجع على التخلص منها حتى ولو بالعالم الافتراضي، أي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعلّ السلاح الوهمي الأقوى فيها هو عدد الإعجابات التي ينالها الأشخاص والتي تعني لهم ضمنياً "أنا أسمعك وأوافق" فتشعرهم أنهم محبوبون ومحاطون وليسوا وحدهم، فتطمئن قلوبهم وتتحصّن صورتهم الذاتية.
يقول الأديب الفرنسي الشهير أونوري دو بالزاك "الوحدة جيدة، لكنك تحتاج لشخص يقول لك أنها كذلك". هل هي فعلاً كذلك؟ هل يمكن لنفسنا أن تشعرنا بالسعادة؟ هل نتذوق طعم الحب والفرح منها؟ أم أن سعادتنا رهن بالآخرين فقط؟
هل الوحدة عدو كما صُوّر لنا أم يمكن أن تكون صديقنا الأكبر؟
الوحدة: عدو أم صديق؟
شأنها شأن أي شعور آخر، تتفاوت الأعراض الناتجة عن الوحدة لدى الأشخاص ولكنها في غالبيتها توقظ شعوراً باطنياً قديماً بالرفض. شعور يعود تاريخه ربما لأول تجربة سلبية بين الطفل وأمه، حين وضعته في سريره لينام وحيداً أو حين كانت تُرضعه ونظراتها في مكان آخر.
يستعيض الأشخاص عن اهتمام الأهل بالتفتيش عن أصدقاء ومن ثم عن علاقات عاطفية. علاقات يقولون إنها "تكمّلهم، تملأ عليهم حياتهم، تسلًيهم". فيصبح تركيز هؤلاء مصبوباً على العلاقة لأنها هي مصدر السعادة ومن دونها يخلق الحزن وتستيقظ الوحدة.
شعور شغل الباحثين النفسيين والاجتماعيين منذ القدم حتى أيامنا هذه، فأجريت عليه الأبحاث والدراسات لفهمه والمساعدة على تخطيه وكأنه حالة مرضية أو خلل نفسي.
6 وسائل تساعدكم على مصادقة الوحدة والاستمتاع بالتواجد مع أنفسكم، دون الحاجة إلى أحد
لكن اللافت أن الأبحاث الحديثة لم تعد تنظر للوحدة بالسلبية نفسها. بل على العكس، بدأت تبحث في فوائدها، ولعلّها كثيرة، منها تلك الدراسة التي نشرت على موقع Psychology Today وشددت على 6 فوائد أساسية لتمضية الوقت وحيداً وأسمتها "أسباب السعي وراء الوحدة":
1
تسمح لكم بإعادة تنظيم دماغكم. الأمر الذي يستحيل تحقيقه إن كنتم محاطين طوال الوقت. الوحدة ستساعدكم على تطهير دماغكم وجسدكم في آن واحد من كل مصادر الإلهاء والضغوط والأحداث حتى الإيجابية منها.
2
تزيد من تركيزكم وقدرتكم على الإنتاج. لأنكم لستم مضطرين إلى اقتسام واجتزاء طاقتكم على الآخرين بل أنكم تستغلونها لكم وحدكم، في عملكم ونشاطاتكم، ما سيزيد في فرص نجاحكم كما من قدرتكم على التحكم بالوقت.
3
تمنحكم الفرصة لتتعرفوا على ذاتكم. لأنكم بعيدون حينها عن أحكام الآخرين وآرائهم وتوقعاتهم. فتكون حركتكم وتصرفاتكم أكثر حرية لأنكم ببساطة لستم مضطرين إلى إرضاء أحد.
4
توفر لكم الوقت للتفكير. فالنشاطات اليومية الروتينية في العمل أو في العلاقات الاجتماعية تكاد تنسيكم إن كنتم راضين عن أنفسكم، فتصبحون كرجل آلي يتحرك من دون تفكير، فيما تبقى ميزة الوحدة جعلكم تفكرون وبالتالي تصبحون أكثر قدرة على الخلق والتغيير.
5
تساعدكم على حلّ مشاكلكم بفعالية. فمن الصعب التركيز على الحلول التي تناسبكم في ظل آراء ونصائح تأتي من كل حدب وصوب فتشوّش أفكاركم وربما تساهم في تفاقم المشكلة بدل حلّها.
6
تحسّن من نوعية علاقاتكم بالآخرين. ولعلها النقطة الأهم! كلما أخذتم الوقت لفهم مخاوفكم ورغباتكم وطباعكم، أصبحت اختياراتكم أكثر صحّة ونضوجاً وبالتالي أكثر سعادة.
ها هي الوحدة إذاً. عبارة غير مخيفة كما تعتقدون بل هي مفيدة أيضاً في بعض الأحيان. لكن رغم تلك الأبحاث والوقائع، يبقى الإنسان جاهلاً التعامل مع ذلك العدو-الصديق، خصوصاً إذا شعر به وهو محاط. فالوحدة ليست محصورة فقط بالوضع الجسدي، أي بعدم وجود كائن إلى جانبكم.
ألم يسبق أن شعرتم بالوحدة وأنتم في علاقة عاطفية؟ أو حتى بين أصدقائكم؟ يبقى من الضروري إيجاد السبل الصحيحة للتعامل مع ذلك الشعور لتحويله من شيئ مخيف خارج عن سيطرتكم إلى صديق وفيّ لأنه في الواقع لا علاقة له بالظروف الخارجية بل هو حالة وحاجة داخلية تعنيكم أنتم وحدكم.
"لا شيء ينقصكم لتكونوا مرتبطين"
"تزوجوا كي لا تنهوا حياتكم وحيدين. فنجاحكم المهني لا يعوّض عن ذلك بشيء”. كم من مرّة سمعتم تلك النصيحة؟ من أب، أم، جدّة أو حتى صديق مقرّب! يعتقد الكثيرون أن نسج العلاقات الاجتماعية وعلى رأسها العلاقة المتوّجة بالزواج هو الطريق إلى السعادة وتفادي الشعور بالوحدة. وأن السعادة ليست أبداً مرادف النجاح الشخصي. بل هي تلك الناتجة عن الحب والارتباط أي التي تأتي من الآخر.
لكن باحثي جامعة هارفرد كان لهم رأي مغاير. فمن خلال بحث طويل الأمد استمر 75 عاماً لمعرفة ما هي أسباب السعادة الفعلية وهل الزواج أحدها؟ كان الجواب لا. الزواج ليس سبب السعادة بل التواصل الصحي مع الآخرين. والتواصل الصحي يأتي بالاختيار الصحيح الذي ينتج عن مدى معرفة الشخص لنفسه.
"الزواج لا يحمي من الوحدة"، هكذا لخصت دراسة عنوانها "معاً لكننا وحيدون" موضوع الوحدة. إذ أشارت إلى أن 62.5% من الأشخاص في الولايات المتحدة الأمريكية الذين يعانون من الوحدة هم متزوجون. ولفتت إلى أن أعراض الوحدة خطيرة لدى هؤلاء الأشخاص وتؤثر على صحتهم النفسية والجسدية لأنها إن هُملت، سببت اكتئاباً وقلقاً ومشاكل في الضغط وصعوبة في التنفس.
ونصح الباحثون والمعالجون النفسيون الذين شبهوا أعراض الوحدة بأعراض التدخين، الذي يقصّر العمر على المدى الطويل، أن يتريّثوا بعدم اللجوء إلى علاقات مدمّرة من أجل الهروب من الوحدة لأنها ستلاحقهم أينما ذهبوا. لأنهم إن لم يتعلموا أن يصادقوا أنفسهم أوّلاً، فلن ينجحوا في بناء علاقات صحيّة مع الآخرين.
أنتم لستم مضطرين للتواجد في علاقة غرامية أو أي علاقة مع آخر لتشعروا بالسعادة أو لتتفادوا الوحدة، لأن القضاء على ذلك الشعور هو عمل فردي وشخصي ولا يأتي بملء الفراغ بالأشخاص.
لمساعدتكم على مصادقة الوحدة والاستمتاع بالتواجد مع أنفسكم، وهي سعادة لا يمكن أن ينزعها منكم أحد، إليكم الطرق التالية:
1- احجزوا مكاناً لشخص واحد
لا تحتاجون لرفيق إن كنتم تريدون أن تشاهدوا فيلمكم المفضل أو ممارسة الرياضة أو شراء احتياجات المنزل. معظم الأشخاص يعتقدون أن رؤية شخص يتناول الطعام وحيداً في مطعم أمر غريب وغير مستحب، فيذهب بهم التحليل إلى أن ليس لذلك الشخص أحد ليخرج معه وأنه مدعاة للشفقة.
ماذا لو كان تفكيركم خاطئاً؟ ماذا لو كان لذلك الشخص ألف صديق لكنه مستمتع بقضاء الوقت مع نفسه؟ خطوة مهمة وضرورية تعوّدوا عليها وحاولوا جعلها دورية لأنها ستساعدكم على الشعور بالاستقلالية والثقة الأكبر بالنفس.
2- ميّزوا بين الشعور والحقيقة
الوحدة ليست حقيقة لأنكم ببساطة محاطون دوماً بالأهل والزملاء في العمل، أصدقاء، أشخاص تلتقونهم في السوق، أو حتى زوج أو زوجة. الوحدة هي شعور يستيقظ فيكم عندما تشعرون أن صوتكم لا يصل، أي أن لا أحد يفهم رغباتكم أو حاجاتكم التي تبقى دون إشباع. إدراككم أن الوحدة ليست أكثر من شعور يعطيكم أملاً أكبر بالتعامل معها وتخطيها.
3- تعرّفوا على شخصكم
من هو ذلك الشخص الذين تحاولون استبداله دوماً بصداقات وعلاقات؟ هل حاولتم مرّة التواصل معه والتعرف عليه عن قرب؟ أتحدث عنكم، عن أنفسكم. هل تحبّون ذلك الـ"أنا" كحبّكم للآخرين وتعلّقكم بهم؟ امضوا بعض الوقت مع أنفسكم. اختبروا خوفكم، خجلكم، حتى عصبيّتكم الزائدة أحياناً. تصالحوا مع هذه كلها وامضوا. اسمحوا لنفسكم أن تتصرّفوا بحرية، بالطريقة التي تناسبكم ثم حاولوا التصرف بالطريقة نفسها وأنتم مع شخص آخر. لن تنجح علاقاتكم ما دامت تعويضاً عن تلك العلاقة الأساسية فاكتفوا بعلاقتكم بنفسكم لتصبح أي علاقة أخرى إضافة وتصبح الخسارات أقل إيلاماً.
4- لا تبنوا آمالاً كبيرة على أحد
عندما تحملون الآخر مسؤولية إسعادكم بوجوده ومجهوده في العلاقة، فأنتم من دون أن تدروا قد سلّمتموه مفتاح المشاعر لديكم. أي أعطيتموه ما لا يملك. يصبح حينها أي تصرف خارج عن توقعاتكم، عن قصد أو عن غير قصد، مصدر خيبة وحزن، تنشأ بسببه المشاكل، خصوصاً في العلاقات الغرامية، حتى تصل إلى الانفصال التام. إذ ذاك تشعرون بالوحدة بعدها.
أسعدوا أنفسكم. اشتروا الهدايا والورود لكم. حضروا وجبتكم المفضلة... لا تنتظروا السعادة من الخارج.
5- حدّدوا مصدر أفكاركم السلبية
"سأبقى وحيداً مهما فعلت... أشعر أنني غير محبوب... أشعر أنني فاشل. لذلك أنا وحيد... سأبقى مع شريكي مهما خذلني لأني لا أريد البقاء وحدي..." وأفكار أخرى تراودكم لكنكم تتجاهلونها. خذوا موعداً غرامياً مع أنفسكم، وحاولوا تحديد مصدر شعوركم لتعرفوا لماذا لا يفارقكم. إن شعرتم أنكم غير محبوبين فهذا ليس خطأ الآخرين في حياتكم. هذا نقص في حبكم لأنفسكم. وإن شعرتم بالفشل مهما فعلتم فهذا لأنكم ما زلتم تنتظرون التصفيق لأي عمل تقومون به... صفّقوا لأنفسكم!
6- ابتكروا تعريفاً جديداً للوحدة: أنا وأنا
استغلوا الفترات التي تكونون غير محاطين فيها وأعيدوا ترتيب حياتكم وأولوياتكم. لكي تقدروا على إنتاج تغيير بناء ومفيد سواء في عملكم أو حياتكم الخاصة واختياراتكم العاطفية وحتى في صداقاتكم. فكلما تقرّبتم من ذاتكم وعرفتموها جيداً، أصبح اختياركم لأشخاص يتجاوبون مع رغباتكم بسلاسة أكبر، أمراً سهلاً.
تذكّروا أخيراً أن الوحدة لا تعني أن تكونوا غير محاطين. فالسعادة لا تأتي من الخارج، ولا الحزن أيضاً.
تحرير واعداد ستيفاني غانم
أخصائية في علم النفس العيادي والتحليل النفسي. تقدم فقرة أسبوعية ضمن برنامج “ببيروت” على قناة LBCI الفضائية.
موقع رصيف 22
↧