يحظى الفنان الشعبي السوري أبو صبحي التيناوي (1888-1973) بشعبية وشهرة تُنافس كثيراً من الفنانين التشكيليين البارزين؛ وقد وصلت أعماله إلى مشارق الأرض ومغاربها، حيث جرى اقتناؤها من قِبل أفراد ومؤسسات فنيّة، كما تكلّم عنها معظم من بحث في تاريخ فن الرسم على الزجاج، أو في الفنون الشعبية الشرقية.
لكننا إذا تركنا جانباً الأبحاث العلمية أو الدراسات الأكاديمية، والتي يجري معظمها في "الخارج"، لنقرأ ما يُكتب أو يُحكى عنه في إعلامنا المرئي أو المكتوب، نجد أنفسنا أمام مقالات تتغنّى بفنانٍ "عالِمٍ"، صاحب موهبة استثنائية، وصاحب روائع متفرّدة. فهل هو وأعماله كذلك؟
يستعمل الكتّاب والصحافيون في عناوين مقالاتهم عن التيناوي تسميات كالفنان التقليدي أو الفطري أو الشعبي، ولكن في سياق حديثهم عنه نجد أنهم يتعاملون معه في كثير من الأحيان كفنان تشكيلي كان واعياً لما ينجزه من أعمال.
فتحْت عنوان "الفن التقليدي الشعبي.. أبو صبحي التيناوي نموذجاً"، يكتب سامر إسماعيل في موقع "ضفة ثالثة/ العربي الجديد" (كانون الثاني/يناير 2017) مقالاً واصفاً فيه طريقة التيناوي في جعل تكويناته متوازنة فيقول: "ويضيف أحياناً عناصر نباتية لإقامة نوع من التوازن، أو أشكالاً ملوّنة بين طرفي اللوحة من الأعلى للإمساك بالتكوين".
ويتابع إسماعيل فيتكلّم عن لوحة "البُراق"، ويقول إن التيناوي "يقوم بدمج رأس امرأة بجناحين مع جسد حصان، يضع فيه ملونّات كثيرة ومنمنمات عديدة. ويحيلنا هذا العمل إلى النحت السوري القديم، حيث درج الفنان على دمج وتركيب عناصر حيوانية وإنسانية، وهي فكرة خلّاقة بالنسبة إلى ذلك الزمن، في كيفية رؤية الشكل بصرياً بما يخالف الواقع".
أما أديب مخزوم فيكتب في صحيفة "الثورة" (كانون الثاني/ يناير 2016) مقالاً بعنوان "الفنان الفطري طائر يغرد خارج سرب الحداثة، أبو صبحي التيناوي وخليل زغيب أنموذجاً" يتحدّث فيه عن "بحوث" التيناوي التقنية، فهو قد "كان يقدّم في لوحاته، خلاصة بحوث خبرته التقنية وعلى الطريقة التقليدية، مبتعداً كل البعد، عن التأثيرات الفنية الأوروبية الحديثة، التي تركت تأثيراتها المباشرة والواضحة على أعمال مجمل أبناء جيله من الفنانين السوريين والعرب المُحدثين".
ويكمل، متناولاً أثر الفنون الشعبية على الفن الأوروبي الحديث: "كل الانقلابات الفنية الحديثة، التي حدثت في باريس في نهاية القرن التاسع عشر قد استفادت، إلى حد بعيد، من رمزية الألوان الفطرية العفوية المجسّدة في الرسوم الشعبية العربية".
أما الكاتب السوري زكريا تامر، فكتب قبل ثلاثين عاماً في مجلة "التضامن" (1987) تحت عنوان "عنتر وعبلة" عن أن براعة التيناوي "الفنية الفذّة تتجلّى في أنه رسم عنترة وعبلة في مئات اللوحات، من دون أن تكون إحدى اللوحات مشابهة للأخرى، مع أن الموضوع واحد لم يتبدّل". كما يذكر تامر، وهو ما ذكره غيره أيضاً في غير مكان، أن التيناوي "هو أول فنّان عربي يشارك مع بيكاسو في معرض نظّمته مقتنية فرنسية"، لكن من دون أن نعرف من تكون هذه المقتنية ولا أين جرى المعرض، وغير ذلك من تفاصيل.
وُلد هذا الفن في القرن الرابع عشر في أوروبا، وتطوّر في مراكز صناعة الزجاج الهامة، حيث كان يجري تصوير مواضيع دينية وشعبية، ولم يلبث أن انتشر في كامل حوض البحر المتوسط. والتيناوي، الظاهرة الفريدة بالفعل، كان الوحيد الذي مارس فن التصوير على الزجاج في المنطقة بهذه الغزارة في الإنتاج، في حين لا تجد إلا آثاراً بسيطة لهذا الفن موقّعة بيد غيره.
وبالطبع لا نبخسه حقه إن وضعناه في خانة الفنان الشعبي البسيط الذي يتّخذ من الرسم حرفة مثله مثل المزخرفين، كما لا ننفي بذلك أهميته كأحد أشهر الرسامين الشعبيين العرب، بل نضعه هكذا في مكانه الطبيعي.
فـ التيناوي، كأيّ رسام شعبي، يعبّر عن مشاعر وعواطف مجتمعه في فنّ يجسّد المفاهيم الشعبية، في الاتجاهين الاجتماعي والثقافي. وبالنتيجة، فإن رسومه وأشكاله التي ينسخها أو يؤلّفها أحياناً لا تخضع فقط لمنطق فن التصوير، الذي لا يعي مبادئه أصلاً، بل قبل كل شيء لمنطق ثقافي. وبالتالي فإن تفرّد التيناوي عن غيره من فنانين شرقيين شعبيين قد كان في تفاصيل صغيرة صاغتها الصدف أو المزاجية أو عوامل طارئة غير مدروسة.
والتيناوي لم يتجاوز أبداً هذه الحالة كرسّام شعبي، فهو قلّما أبدع رسوماً من خياله، بل إن ما حاد عن مواضيعه التقليدية في أعمال أنجزها، كان بطلب من الزبائن ولم يكن بدافع شخصي، كما قال الصائغ وبائع الأنتيكا في دمشق، جورج عبيد، في حديث إليّ، جرى عام 1999، وكان قد سوّق لبيع أعمال التيناوي بين السائحين.
كما إن السمة التكرارية لمواضيعه تثبت فرضية أنه كان يعمل اعتماداً على رسوم جاهزة سلفاً، ويبدو ذلك أكيداً عندما نشاهد أعماله وأعمال غيره في بقاع بعيدة. فقد نسخ التيناوي، بلا كللٍ، صوراً لا نعرف أصلها جيداً، تتغير ألوانها وزخارفها من لوحة إلى أخرى بحسب مزاجه، وأحياناً بحسب ما لديه من ألوان. فنجد المشاهد نفسها، مثل "البُراق" الذي ذكرناه آنفاً، في بلاد بعيدة جداً مثل السنغال، كذلك صور عنترة أو أبو زيد الهلالي في دول عربية مثل مصر وتونس.
ومع ذلك يستمر بعض الفنانين التشكيليين، كنزار صابور (1958)، على سبيل المثال، في الإشارة إلى أهمية التيناوي والفن الشعبي كملهم، حيث بدأ صابور بالفعل تجاربه بتقديم رؤيته لصندوق الدنيا سنة 2003، ومن ثم أعاد في سنة 2005 صياغة رسومات عنترة التي رسمها التيناوي وغيره في أعمال تشكيلية معاصرة "كتحية لهؤلاء الفنانين المتّسم فنهم بالبساطة والعفوية" كما يكتب جواباً عن سؤالنا، ويؤكد لنا من جهة أخرى أنه "لا يمكن تسمية التيناوي فناناً تشكيلياً".
المصدر: العربي الجديد - بطرس المعري
↧