يصح القول إننا أمام رجل عادي وامرأة استثنائية، رجل عادي يشغل، في غفلةٍ، موقعا رفيعا لا يستحقه، إلى درجة أن تنتابه الوساوس، وتتملّكه الظنون، خشية أن يفقده، وامرأة استثنائية تعمل مساعدةً له، لكنها تعرف قدر نفسها. ولذلك، تأبى أن تتراجع عن قولة حق قالتها، وتتخلى عن موقعها باختيارها.
الرجل العادي هو أنطونيو غوتيريس، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، الذي علّق عليه الناس المهضومون في العالم آمالهم، لكنه خيّب كل تلك الآمال، عندما تنكّب طريق الحق، وزاغ عنه، حفاظا على موقعه، وما يدرّه عليه من امتيازات وسطوة ونفوذ، وأذعن لإملاءات واشنطن في سحب التقرير الأممي الذي يدين إسرائيل. أما المرأة الاستثنائية فهي مساعدته، ريما خلف، التي رفضت سحب التقرير الذي أشرفت على إعداده، بصفتها المسؤولة عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة لغرب آسيا (أسكوا)، وفضّلت التخلي عن عملها بشجاعةٍ ونكران ذات، "استقلت، لأنني رأيت من واجبي ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة" (!).
الجريمة الماثلة التي عنَتها خلف هي إنشاء إسرائيل نظام فصل عنصري، يعتمد سيطرة الفئة العرقية اليهودية، ويهدف إلى اضطهاد الشعب الفلسطيني، وتفتيته سياسيا واجتماعيا. والتقرير، موضوع البحث، يوثّق الجريمة ويوضّح مدياتها في إطار منهج علمي وقانوني، ليخلص إلى تحميل إسرائيل المسؤولية عن هذه الممارسات، ويدعو إلى إحالة الأمر إلى محكمة الجنايات الدولية، باعتباره يشكل جريمة ضد الإنسانية.
ترى ريما خلف أن تفكيك هذا النظام يشكل الأساس لحلٍ عادل للقضية الفلسطينية، تضيف "إن حل الدولتين ليس حلا، وحل الدولة الواحدة ليس حلا أيضا، وأية حلول أخرى لا تنفع، ما دام نظام الفصل العنصري قائما". هذا المنطق لا يرضي الولايات المتحدة، وبالطبع ترفضه إسرائيل، لأنها صاحبة السطوة والنفوذ، ليس على الأميركيين وحسب، إنما على المنظمة الدولية التي لا تستطيع أن تقف في مواجهة الغطرسة الصهيونية، ولا على رفض ما تريده واشنطن. ولذلك، استنفرت القوى الصهيونية كل إمكاناتها للضغط، مطالبة بسحب التقرير، ونجحت في مسعاها، ولم تتحرّك المجموعة العربية في المنظمة الدولية، إلا بعد فوات الأوان، وقالت، في بيان خجول، إنها قررت تشكيل لجنة من ثلاثة أعضاء لمتابعة القضية.
أما الحكومات العربية فلم تفكر في استثمار الفرصة المتاحة أمامها، للقيام بحملة عالمية، تعتمد ما جاء في التقرير، وكان عليها أن تعلن بصوتٍ عالٍ تمسكها بطلب إحالة حكومة تل أبيب إلى القضاء الدولي، وإدانة الممارسات العنصرية الإسرائيلية، والسعي إلى إيجاد رأي عام مناهض لها، والضغط على المنظمة الدولية لتبنّي التقرير المذكور. بإمكانها أيضا درس فكرة تجميد عضويتها فيها، وهي الفكرة التي اقترحها خبراء قانون عرب، لكن هذه الحكومات بدت صامتةً، وكأنها غير معنية بما يجري، ولعلها أرادت أن تثأر من ريما خلف التي سبق أن دانتها بإهدار معايير المواطنة داخل بلدانها، وانتهاكها حقوق الإنسان، ودعت إلى إيجاد منطقة مواطنة عربية حرة، يتمتع فيها مواطنو أية دولة عربية بكامل حقوق المواطنة في أية دولة عربية سواها، كما أكدت على ضرورة امتلاك أدوات النهضة، إرادة حرة، علم مبدع، قدرة حقيقية، وحياة قائمة على التعددية والتجديد.
الأميركيون الذين وضعوا كل ثقلهم لإسقاط التقرير الأممي كانوا هم أيضا قد أزعجتهم ريما خلف، عندما أشرفت على تقرير سابق لها عن التنمية الإنسانية، جاء على ممارسات القوات الأميركية في احتلالها العراق، وسلبها من المواطن العراقي حقوقه الاجتماعية والإنسانية. وفي حينها، نجحت أميركا في تغييب التقرير المذكور، فيما صمتت الحكومات العربية كعادتها عن الأمر، على قاعدة أن النأي بالنفس عن إعطاء موقف في مثل هذه الحالات هو أفضل موقف بالنسبة لها.
وعلى أية حال، ستظل المنظمة الدولية من دون ثقل دولي، ما دام فيها أمثال أنطونيو غوتيريس، الذي قد يبقى أمينا عاما لها سنوات خمسا، وربما سنوات خمسا أخرى، لكنه لن يكون أكثر مما هو عليه الآن، رجلا عاديا تنتابه الوساوس، وتتملكه الظنون من أن يفقد منصبه، يتخاذل ويتراجع ويستسلم للضغوط. أما ريما خلف فلسوف يكتب التاريخ عنها أنها امرأة استثنائية، كانت واحدةً من خمسين شخصية عالمية، ساهمت في رسم ملامح العقد الماضي، وهي أيضا صاحبة تقرير "نحو الحرية في العالم العربي"، وفي واقعة التقرير الأممي الجديد، تقدمت الرجال، لتجهر بالحق في زمن تخلّفوا هم فيه عن قولة حق.
المصدر: العربي الجديد - عبد اللطيف السعدون
↧