فندق رواندا" فيلم سينمائي يروي قصة حقيقية لمدير أحد الفنادق في العاصمة كيغالي، أنقذ بمفرده أكثر من ألف شخص من المجازر التي شهدتها البلاد عام 1994 وخلفت نحو مليون قتيل.
تذكرت الفيلم وبطله بول روساساباغينا وأنا أستمع لكلمات الرئيس الرواندي بول كاغامي في افتتاح مجمع للمؤتمرات شيد مؤخراً بالعاصمة. كان الرجل الهزيل يتحدث بلغته الإنجليزية المتواضعة عن رؤيته للبلاد في عام 2020، وكيف يسعى لتحويلها إلى قطب اقتصادي إقليمي جاذب للاستثمار.
لم يستخدم كاغامي عبارات التسويف والبهرجة التي درجنا على سماعها من زعمائنا وقادتنا الملهمين، وكان حريصاً على اختيار عبارات مقتضبة وواضحة، لا تحمل وعوداً خيالية، ولا بشارات مستحيلة، وكان يشيد دائماً بدور مواطني بلده وتضحياتهم وقدرتهم على إحداث التغيير.
ببحث بسيط في الإنترنت ستذهلك الأرقام التي حققتها هذه الدولة القصية، دولة فقيرة لا تمتلك ثروات معدنية، ولا منفذاً على البحر، وخرجت من أكبر اقتتال عرقي تشهده البشرية في التاريخ المعاصر بنحو مليون جثة، لقد وصل مستوى التطور الاقتصادي برواندا إلى مصاف الدول الأسرع نمواً في العالم، والأكثر جذبا للمستثمرين، وتحتل الرتبة الأولى في معدلات النمو السنوي بأفريقيا، (8% معدل يفوق الصين)!
هذه الأرقام المعجزة تحققت في أقل من عقدين، وتحت زعامة قائد عسكري، شارك في الاقتتال الذي شهدته البلاد، وكان عضواً في مليشيات بأوغندا والكونغو المجاورتين، وينتمي لأقلية التوتسي التي أبيدت من قبل عصابات تنتمي للأكثرية العرقية الأخرى "الهوتو".
لكن الغريب أن هذا العسكري عندما تولى السلطة لم ينتقم أو يثأر ممن أبادوا عشيرته، بل سعى لبناء المجتمع من جديد، والانطلاق نحو غد أفضل يعتمد على سواعد الروانديين، بالتركيز على الزراعة، وتأهيل يد عاملة محترفة ورخيصة، تتقن التعامل مع التقنيات الجديدة، وأطلق قبل سنوات الجيل الرابع من الاتصالات، ومنح كل طالب ابتدائي جهازا لوحياً يضم المناهج التعليمية من الصف الأول إلى السادس، وألغى الاعتماد على اللغة الفرنسية، لغة المستعمر، واعتمد الإنجليزية لغة للمعاملات الرسمية في المؤسسات الحكومية التي ذللت كل الصعاب أمام المستثمرين الأجانب، وفتح المطار لكل قادم دون تأشيرة لتطوير القطاع السياحي، واختيرت العاصمة كيغالي -التي كانت تزكم رائحة الجثث أنوف سكانها- أجمل عاصمة أفريقية في 2015.
رواندا اليوم مثال واضح على ما يمكن أن يقوم به رجل واحد إن تحلى برؤية القائد ورويته، فرغم الخلفية العسكرية لبول كاغامي، والإرث الصعب الذي وجده أمامه، وموقع رواندا المحاطة بدول فاشلة من كل جانب، فإنه أدرك أن الإنسان هو إكسير النجاح، ومهما أنفق من أموال في البنية التحتية والمشاريع الخدمية وغفل عن تطوير المواطن العادي فلن يصل إلى نتيجة.
في أحد مشاهد فيلم "فندق رواندا" يصاب البطل بول باليأس بعد عجزه عن إنقاذ إحدى الأسر الفارة من جحيم الاقتتال، وفي مشهد مؤثر للغاية يوشك البطل على الانهيار ويقع على الأرض باكياً لشعوره بالعجز، لكنه يتمالك أعصابه ويقف ليواصل سعيه لإنقاذ ما تبقى من سكان الفندق، هذه الوقفة هي ما نحتاجه اليوم، فالنحيب على ما نحن فيه لا يغير من الأمر شيئاً.
المصدر
↧