لم تأت القوات الفرنسية والبريطانية إلى المشرق العربي فجأة، ومن دون مقدمات. كانت التقارير تمهّد، دائماً، طريق القوات. ثمّة من عليه أن يذهب و”يمسح” المكان المستهدف، ويعود بتقريره إلى القيادة. نتذكّر أن هذا حدث في التوراة، وعلى يد نبيٍّ هو موسى. تقول الحكاية التوراتية إن موسى، عندما أشرف على فلسطين، أرسل بضعة جواسيس لاستطلاع أرض كنعان. كان يودّ أن يكون لديه، بحسب الحكاية إياها، أكثر من رأي. وبناءً على القواسم المشتركة بين تقارير جواسيسه يبني خطته. عاد جواسيس موسى، كما تخبرنا أسفار التوراة، ليقولوا له إن أرض كنعان يتدفق منها اللبن والعسل، وإن سكانها من الجبابرة العماليق. ليست مهمةً صحة هذه الحكاية، وأين حدثت: في أرض كنعان (فلسطين) أم في بلاد السراة (الحجاز) كما يقول المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي. ما هو مهم فيها شيئان: أولاً أن الجاسوسية (بهذا المعنى) عمل مقدَّس، والثاني أن لا غزو ناحجاً من دون استطلاع.
على هذا النحو، حدث الغزو الفرنسي البريطاني للمشرق العربي، فقد سبق الحرب العالمية الأولى تسابقٌ بين هاتين الإمبراطوريتين الطامعتين بمزيدٍ من النفوذ والثراء، على “الاكتشاف” ونقل “التحضّر” إلى أجزاء متوحشة من العالم.. أو أقل تحضّراً. كانت العين حينها على السلطنة العثمانية المترنِّحة تحت ثقل إرثها وتنابلة سلاطينها وتفنّنها في صنع مئة طبخة من الباذنجان، فيما الغرب يقفز، بفضل العلم والتعليم وصعود الطبقة البورجوازية، خطواتٍ ضوئيةً أمام الطغراء والطربوش الأحمر المشرشب. دعونا نتذكّر بعض أولئك الرسل الذين جابوا بلاد السلطان، في ألف وجهٍ وحجة، وعادوا بتقاريرهم إلى المتروبول: من لويس بيركهارت ووليم بلغريف وإدورد لين، إلى لورنس العرب، مروراً بألويز موزيل (موسى الرويلي)، وجروترد بيل (الخاتون) ومارك سايكس. وسيكتب لهذا الأخير أن يصير جزءاً من مصائر المشرق العربي، أو تقاسم “أملاك” السلطنة العثمانية التي كانت على وشك الانهيار، عندما بدأ نجم هذا الارستقراطي الإنكليزي الشاب يلمع في دوائر القرار البريطاني.
هناك قرنان كاملان من الرحلة والاستكشاف والدراسة والاستطلاع والخرائط سبقت الوصول إلى لحظة سايكس – بيكو، اتفاقية تقاسم “ورثة” السلطنة العثمانية، وهي لا تزال على قيد الحياة، بين بريطانيا وفرنسا. ليست رحلة ولا اثنتين ولا خارطة واحدة أو بضع رسومات طبوغرافية، ليس “حاجاً” ولا بوهيمياً عاشقاً للشرق، ولا بعثة جغرافية، ولا آثاريين ينقبون عن مواقع الحضارات القديمة، ويسرقون ما يجدون.. كلا، هناك مئات الرحلات والبعثات والمستشرقين والرسامين والمبشرين ومصمّمي الخرائط ودارسي العادات والتقاليد ومحنطي الحشرات والنباتات النادرة تردَّدوا إلى المشرق العربي خلال قرنين.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان يحدث أن يصطدم الرحالة الأجانب بعضهم بالآخر في الأسواق القديمة، في الخانات والفنادق في مدن “العصور الوسطى” العربية. كان التزاحم على أشدَّه لمعرفة ما الذي يجري في “الممتلكات” العربية للسلطنة المفلسة. من هذا التدافع بالمناكب بين الرحالة والمستشرقين، كان اللقاء غير الودي بين غروترد بيل ومارك سايكس. شخصان في “مهمةٍ” واحدة. ولكن، لم يقع أحدهما بخفةٍ ولطفٍ على الآخر. نعرف هذا من كتاب “خط في الرمال” للكاتب البريطاني جيمس بار. فهو يصفها بأنها “حمارة ثرثارة”. فقد كان يفسد على أولئك “الرحالة” الأوروبيين “رؤية أوروبيين آخرين”، يسلكون الطريق نفسها التي يسلكونها. لكن تقارير بيل وسايكس ستتقاطع عند نقطة واحدة: صنع شرق أوسطٍ لم يكن موجوداً من قبل.
من يقرأ الأدبيات التي تؤرخ لتقسيم المشرق العربي، ومن بينها كتاب جيمس بار، يقع على مجهوداتٍ رهيبةٍ وحثيثةٍ لكيفية النهب والتقاسم، على الرغم من التنافس والتصارع. المشرق العربي لقمة كبيرة على بريطانيا وحدها، أو فرنسا وحدها. لذلك، كان لا بد من التقاسم. هل كان التقاسم مجرد خطٍّ في الرمال، كما يصف كتاب بار فعلاً؟ لقد صمد خطّ الرمال الذي رسمه على دفتر واجباتٍ مدرسية، مارك سايكس، نحو قرن. وها هي، في خطوط التقاسم الفرنسي البريطاني هذه، تدور الحروب وتتقاطر الأحلاف ويبرز خطاطون جدد في الرمال. قد يطول الوقت، لنعرف ماذا يجري الآن في الكواليس. ولكن، عندما يحدث هذا، يكون الأوان قد فات لتداركه.
المصدر: العربي الجديد – أمجد ناصر