مع غياب الرجال عن أسرهم في دمشق وهجرة نسبة كبيرة من الشباب إلى خارج البلاد وضيق الأحوال المعيشية، ازدادت ظاهرة غير مألوفة في مناطق سيطرة النظام، وهي ارتفاع نسبة مشاركة الإناث في الأعمال اليومية وممارستهن أعمالاً كثيرة كانت حكراً على الرجال، كونهن أصبحن فجأة المعيل الأساسي للأسرة.
ظاهرةٌ سلطت عليها الضوء صحيفة “الحياة” على ما أنتجته سياسة التهجير المستمرة للشبان من خلال حملات الاعتقالات المستمرة والطلب للتجنيد الإجباري في قوات النظام، فكان خيار الآلاف هو الهروب خارج البلاد.
على طريق حي الزاهرة الجديدة جنوب دمشق، انتشرت أخيراً وفي شكل لافت المقاهي، وأول ما يستقبل الزبائن على بواباتها فتيات لا يتجاوز عمر الواحدة منهن الثامنة عشرة. البعض منهن يقمن بارتداء ملابس سافرة وأخريات ملابس فيها نوع من الحشمة، يقمن بالترحيب بالزبائن ومرافقتهم إلى أن يختاروا طاولة يجلسون عليها، ومن ثم تلبية طلباتهم والتردد عليهم بين الحين والآخر إلى أن ينهوا جلستهم… ثم قبض قيمة الفاتورة والبقشيش (الإكرامية).
إحداهن كانت ترتدي حجاباً وبنطالاً من الجينز وقميصاً طويلاً، وتبدي ابتسامات في وجه الزبائن، كان واضحاً أنها مصطنعة، اختصرت إجابتها بكلمتي «خليها لله» رداً على سؤال عن سبب الحال التي هي عليها، مع أن هذه المهنة كانت حكراً على الشباب. وبعد أن جلبت كأساً من الشاي، ومن ثم نركلية (شيشة) أوضحت وهي تحبس دموعها، أنها «مجبرة» كونها باتت وأمها «المعيل الرئيسي» لثلاثة أطفال نزحوا معها من ريف حمص، إثر تدمير القصف منزلهم وقضائه على والدها وأخوين أكبر منها.
ولا تخف الفتاة، أن ما تتقاضاه من صاحب المقهى «لا يتعدى الـ 25 ألف ليرة سورية في الشهر، ويكاد لا يكفي لمعيشة شخص واحد»، قبل أن تلفت إلى أن هناك «محترمين. طيبين» يعطونها «إكرامية»، وتضيف: «مع ما تحصل عليه والدتي مقابل تنظيف المنازل بين الحين والآخر نتدبر أمورنا».
وتُقدر الأمم المتحدة عدد ضحايا الحرب في الأعوام الخمسة الماضية بحوالى 300 ألف، فيما قدرهم «المركز السوري لأبحاث السياسات» السوري بـ٤٧٠ ألفاً. يضاف إليهم نحو مليون شخص أصيبوا بإعاقات مباشرة وعشرات آلاف المعتقلين، بحسب الصحيفة.
وقالت فتاة أخرى، تعمل في مقهى بأحد أحياء دمشق القديمة، وتمتد فترة عملها من المساء وحتى منتصف الليل، ولم تجد حرجاً في الكشف عن «مضايقات تتعرض لها أحياناً من بعض الزبائن»، وتقول: «معظمهم شبيحة ويعتقدون بأنهم يستطيعون شراء شرف الناس… الوضع صعب للغاية، ومضطرة للعمل وتحمل تحرشاتهم لكن لحدود معينة»، قبل إشارتها إلى أن مسألة العودة إلى منزلها في أطراف العاصمة منتصف الليل تشكل لها «هماً يومياً» في ظل حالة اللاأمن السائدة.
وفي أسواق دمشق التجارية، بات من المألوف مشاهدة فتيات يعملن في محال بيع الألبسة الجاهزة الرجالية والنسائية والسوبرماركت والحلويات والبوظة. ووفق تقارير صحافية، كانت الأرقام الرسمية تشير إلى أن عمالة النساء في سوريا لا تشكل أكثر من 16 في المئة من قوة العمل السورية، وأن نسبة البطالة وصلت بين الإناث إلى نحو 11.1 في المئة عام 1994، وارتفعت إلى الضعف تقريباً بين عامي 2004 و2009. أما لدى الذكور، فقد كانت النسبة 6.3 في المئة وارتفعت إلى نحو 10.5 في المئة خلال الفترة نفسها، لكن الأرقام وخلال السنوات الخمس الماضية ورغم ندرتها إلا أنها ترجح تغيراً كبيراً لمصلحة النساء بعدما أصبحت قطاعات كثيرة تطلب عاملات لسد الثغرات.
اليوم وبعد أن هاجرت نسبة كبيرة من الشباب هرباً من الخدمة الإلزامية والاحتياطية في جيش النظام وندرة فرص العمل، بات المتجول في مناطق سيطرة النظام يلحظ أن الأسواق والأماكن العامة تزدحم بالنساء. ووفق ما نقلت التقارير عن خبير اقتصادي من دمشق رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، فإن نسبة طغيان الطابع الأنثوي على الذكوري في الأسواق والأماكن العامة تصل إلى 80 في المئة.
وكنتيجة طبيعية، ساهمت عمالة النساء في رفع نسبة الأنشطة التي تقوم بها المرأة السورية مقارنة بالرجل بما يقارب 40 في المئة كحد وسطي، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي. ويشير إلى أن هذه النسبة ارتفعت إلى 90 في المئة نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي نتيجة لظروف فرضتها الحرب على الرجال.
«أم محمود» في العقد السادس من العمر، وهي أم لأربع فتيات، وأصيب زوجها بطلق ناري في ظهره أدى إلى إعاقته عن الحركة، افتتحت بسطة لبيع علب السجائر أمام منزلها في أحد أحياء دمشق الغربية، لأنه «من غير المعقول والمقبول»، أن تعمل فتياتها في معمل أو مطعم لأن «زمنّا مخيف». وأضافت: «عندما تذهب إلى السوق من أجل شراء بعض الحاجيات، ينشغل عقلي ويغلي قلبي عليهن حتى يرجعن. البلد ما عاد فيها أمان. هيك (هكذا) أفضل وأكسب يومياً ما يسد رمق العائلة».
لكن «أم محمد» التي لديهما خمس فتيات وطفل ويعمل زوجها موظفاً ولا يكفي مرتبه لتغطية نفقات الأسرة في ظل الارتفاع الجنوني المتواصل للأسعار، رأت وفتياتها أن يساعدن رب العائلة وهن داخل المنزل. وتقول: «نصنع زهور اصطناعية بعد جلب مكوناتها من ورشات عمل تعمل هي بدورها على تثبيتها على «أقواس وشكلات شعر» تستخدمها الفتيات». وتابعت: «على رغم أن أجرة تصنيع الزهرة الواحدة أقل بقليل من ليرة، إلا أن إتقان طريقة العمل سرّع من الإنجاز، ويمكننا مجتمعين صناعة نحو 500 زهرة يومياً. هكذا نخفف نوعاً ما عن الزلمة (رب الأسرة). بحصة بتسند جرة».
مهن أنعشتها الحرب
سمر وروضة وتسنيم نادلات في حي ساروجة وسط دمشق يستقبلن الزبائن ويطلبن منهم الجلوس على الطاولات الموزعة في الشارع الذي تحول مع عصر الانفتاح إلى مقهى كبير، بعدما كان مجموعة من البيوت القديمة التي تم استثمارها فيما بعد الانفتاح لتصير من أكثر الأماكن التي يرتادها الشباب وتقدم لهم الأركيلة والشاي والمشروبات الساخنة والباردة، وملتقى لجيل يتابع المباريات في الشارع، ويتحدث عن العولمة والثورة والحريات.
المطاعم التي تقدم الفول والصحون الشامية الشهيرة كالفتة والمسبحة استخدمت أيضاً الفتيات في تقديم الطلبات للزبائن العابرين لساروجة إلى شارع الثورة وبالعكس ومبنى المحافظة وبالعكس، وهذه ميزة من ميزات الشارع الموزع على بقية جهات العاصمة، وأخذ سمعته من المقام الموجود فيه منذ عقود ليتحول شارع المزار المقدس لصاحب الخطوة إلى مقصد شباب الجامعة والباحثين عن جلسة هادئة لا تخلو من الفتيات اللواتي يزدحمن هنا.
الكافتريات المنتشرة جداً وتبدو كأنها الوحيدة التي تعمل بعد أن تحطمت أغلب المهن بسبب الغلاء وهجرة اصحابها والحصار المضروب على الاستيراد والتصدير، وعدم توفر المواد الخام وقطع تبديل وإصلاح المنتجات المحلية والمستوردة، وتبدو مهنة كهذه لا تحتاج إلا لبعض الجمال والقدرة على مخاطبة الزبائن والابتسامة المجانية، وبعض الفتيات يضفن إليها الميوعة والغنج.
في مقهى سأل مراسل “كلنا شركاء” النادلة من اي أنت ..؟، أشارت بيدها إلى نادلتين برفقتها وعددت الأسماء ثم قالت أنا من حمص وهذه من عين ترما وهذه من ريف حلب، وكلنا مهجرات و(آكلين هوا)، ونعيش مع أسرنا التي لا تملك إيجار البيت باستثناء الحلبية، أهلها بحلب وهي تعيش في بيت خالتها وترسل لأهلها المصروف.
النادلة التي تبدو متكلمة قالت: حتى لا تظن بك الظنون أنا بنت عائلة محترمة ولكن تهدم بيتنا ومات أبي في المعتقل، وتركت جامعتي في السنة الثانية، وحالياً ليس عندي خيارات في إعالة العائلة، وأتمنى أن أجمع بعض المال لأسافر وأعمل في تركيا، ومن ثم سأهاجر إلى أي دولة أوربية، وبعدها من الممكن أن أفكر بمستقبلي العلمي، وهذه الحرب أجبرتنا كل حسب وضعه وظرفه على العمل، وما نتعرض له من الزبائن الذكور أمر مشين، ولكن هناك كثيرون يدافعون عنا ويقدرون عملنا وظروفنا.
رصد: كلنا شركاء
↧