مثلما لم يكن التدخل التركي شمالي حلب مفاجئاً لروسيا بحسب تصريح رئيسها فلاديمير بوتين في قمة العشرين الصينية، كذلك لم يكن عدم توصل روسيا والولايات المتحدة إلى حل بشأن سوريا مفاجئاً للمراقبين أيضاً؛ فالعبارتان: "نقترب من الوصول إلى حل في القضية السورية" و"لم نتفق على حل بعد في القضية السورية"، أصبحتا لازمتين في أهزوجة التصريحات مع الإعلان عن كل اجتماع يجمع وزيري خارجية البلدين. لم يعد خفياً أن دولتين اقليميتين كبيرتين هما إيران وتركيا أصبحتا موجودتين عسكرياً على الأرض السورية. وإذا كان الوجود الإيراني كبيراً جداً، فالوجود التركي مازال صغيراً جداً، ولكنه مرشح للزيادة. وكل يوم يعلن عن حشود تركية جديدة، وإدخال أنواع جديدة من الأسلحة منها ما يُستخدم لأول مرة. ثمة قصة شعبية تروى في كل مكان تقريباً، مفادها أن قوتين أو أسرتين تنافستا على زعامة، مما جعل شخصاً ضعيفاً يبرز، ويتزعم المشهد. وتنتقل هذه القصة إلى استخدامها في تفسير كثير من القضايا التاريخية المهمة. هل يجري ما يشبهها اليوم في عالمنا؟ إضافة إلى القوتين الإقليميتين فقد دخلت القوتان العظميان روسيا والولايات المتحدة الحرب السورية، ولكن القوتين الإقليميتين متنافستان ومتصادمتان في بعض الأحيان وإن كان هذا بالوكالة، بينما القوتين العظميين غير متنافستين ولا متصادمتين على صعيد الهدف النهائي وهو تعويم نظام الأسد بطريقة ما، والقضاء على المعارضة بكل أنواعها ما عدا تلك الطيّعة للنظام، ولكن الخلاف بينهما يكمن بالطريقة أو الأسلوب. ولعل الاختلاف بالطريقة والأسلوب جعلهما يثبِّتان واقعاً أليماً على الأرض يدفع السوريون ثمناً باهظاً له. بما أن الولايات المتحدة لا تريد حلاً، وروسيا لا تستطيع أن تفرض حلاً، وعلى طريقة الحكايات الشعبية برزت تركيا في الساحة بطريقة ما بعدما كانت مستبعدة عن كل شيء يتعلق بسوريا نتيجة تنافس القوتين العظميين على الأسلوب لا الهدف. في هذه الأثناء قدم حزب "العمال الكردستاني" فرصة ذهبية لتركيا يوم خرقه الهدنة المعلنة بينه وبين الحكومة التركية، وعودته إلى ما أسماه الكفاح المسلح، وتنفيذه عمليات ضد المدنيين لم تستطع حتى مظلته السياسية حزب "الشعوب الديموقراطي" إلا أن تصفها بالعمليات الإرهابية. الفرصة الأخرى التي قدمها هذا الحزب هي عدم انسحابه إلى غرب الفرات بعد تحريره مدينة منبج من "داعش"، واعتبارها مدينة كردية، وكانت الولايات المتحدة قد قدمت وعوداً بهذا الصدد، ومازالت لا تنكرها. هذه الظروف مجتمعة هيأت لتركيا الجو المناسب للدخول بقوة على الساحة السورية تحت لافتة مكافحة الإرهاب، وقد تبين من خلال العمليات العسكرية التي لم يشارك فيها جنودها فعلياً، بأنها كانت تدرب كثيراً من المقاتلين العرب والتركمان في مقرات الوحدات الخاصة التركية، وأصبح لدى هؤلاء المقاتلين من الكفاءة القتالية ما لا يقل عن كفاءة أقرانهم الأتراك، وكان الدعم الناري التركي كافياً لإعلان وجود تركي على خريطة الأحداث. جاء مؤتمر قمة العشرين، ومثلما علق الإعلام الممانع آمالاً كبيرة على لقاء بوتين وأردوغان في سان بطرسبورغ قبل شهر تقريباً، علّق هذا الإعلام آماله مرة أخرى على لقاءات بوتين وأوباما وأردوغان حول الملف السوري. ولكن هذه الاجتماعات كلها بحسب ما هو معلن لم تسفر عن أية نتيجة ملموسة. أثناء هذه الاجتماعات حدثت تطورات مهمة في الشمال السوري. صحيح أن قوات المعارضة المسلحة قد تراجعت في حلب، وحوصرت المنطقة المحررة من جديد، ولكن قواتٍ تركيةً جديدةً دخلت إلى منطقة الراعي، وقدمت إسناداً نارياً للجيش السوري الحر، وقد استعاد هذا الجيش عدداً كبيراً من القرى والبلدات من "داعش". وحشدت تركيا دبابات جديدة مقابل مدينة تل أبيض، وأمّنت انشقاق كثيرٍ من الوحدات العربية عن "قوات سوريا الديموقراطية" التي يشكل الجناح السوري لحزب "العمال الكردستاني" غالبيتها المطلقة، وأدخلت أسلحة تستخدمها لأول مرة مثل طائرات من دون طيار تحمل صواريخ موجهة وصواريخ أميركية متطورة. هل كانت تركيا تستطيع أن تفعل هذه الأمور في ظرف سابق؟ في الفترة السابقة وصل تهميشها إلى درجة استبعادها تماماً عن الساحة. يبدو أن هناك غض طرف أميركي وروسي في هذا المجال، ويمكن تسميته انشغال الطرفين أحدهما بالآخر، فقبيل ذهابه إلى الصين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "أن تركيا تدافع عن مصالحها في سوريا كما ندافع نحن عن مصالحنا هناك". هناك فترة ميتة في الولايات المتحدة حتى بدايات العام المقبل، وتسلّم الرئيس الجديد، وبدءه ممارسة مهامه، ولذلك فإن الولايات المتحدة تشغل معها روسيا لكي لا تنفرد وحدها على الساحة السورية، وتحاول أن تستنزفها قدر الإمكان. ولكن يبدو أن كل طرف نكاية بالآخر يريد أن يمنح تركيا دوراً أكبر من دورها الحقيقي الذي يمكن أن تلعبه. الحشود التركية، وعلو نبرة مسؤوليها المرافقة بنبرة تصالحية ناعمة مقرونة بكلمات غير مفهومة تقبل التفسير في اتجاهات مختلفة، أدلة على دور تركي سيتطور بحسب المستجدات، والمعطيات على الأرض. فحتى الآن لم يحدد أي مسؤول تركي المساحة أو العمق الذي ستدخل إليه القوات التركية لدعم الجيش الحر، ولذلك نحن نقرأ عن مساحات متفاوتة جداً، فقد كان يقال عن سبعين كيلومتراً طولاً، وها هي المسافة تبلغ تسعين كيلومتراً ونيف طولاً، وكان يحكى عن أربعين كيلومتراً عمقاً، وهناك من قال سبعين... ولكن الناطق باسم "قوات سوريا الديموقراطية" طلال سلو، قال في مقابلة مع صحيفة "القدس العربي" أجريت معه بعيد دخول القوات التركية، إنهم سيؤمنون ممراً إلى عفرين من أسفل المنطقة التي ستدخلها تركيا، فهل تقدم "وحدات حماية الشعب" الذريعة لتركيا لتعميق المسافة التي تدخلها؟ طالما أن الكبيرين مشغولان أحدهما بالآخر، يبدو أنهما اختارا تركيا لتلعب دوراً ما.
المصدر: المدن - عبد القادر عبد اللي
↧