"حرقوا أحياء".. هكذا كان حال الضحايا كما شاهدهم أحد الناجين مما عرف بمذبحة ميدان رابعة العدوية بشرق القاهرة، التي أدت إلى مقتل نحو ألف من رافضي عزل الرئيس المصري المنتخب محمد موسي.
في ذكراها الثالثة يدلي محمود بندق هو مصري بريطاني متخصص في مواقع التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، بشهادته عما يصفه بأسوأ يوم قتل للمتظاهرين في التاريخ الحديث" لموقع "Middle East Eye" البريطاني.
ويشير محمود الذي كان يحمل خلال المذبحة جواز سَفَر بريطانيا إلى أن الذين سقطوا ليسوا بالضرورة من مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين، فمن هللوا للمذبحة نكاية في الجماعة لم يهتموا أن من بين الموجودين في اعتصام رابعة من يرفضون الانقلاب على رئيس منتخب.
وهذه قصته كما نشرها موقع Middle East Eye.
وصيتي
أثناء الهرب من القناصة، وبينما تتساقط الأجساد وتتناثر الرصاصات، أرسل محمد بندق صورة لوصيته إلى صديق من خلال واتس آب، وركض.
كانت الساعة السادسة صباحاً، وبطارية هاتفي متبقٍ بها 17%، ولم أستطع النوم.
في خلال الساعة التالية، سأُجري ما كان سيصبح مكالمتي الهاتفية الأخيرة إلى ابني، قبل أن أشهد ما سُمّي لاحقًا بـ"أسوأ يوم قتل للمتظاهرين في التاريخ الحديث".
التاريخ كان الأربعاء، 14 أغسطس/آب 2013، وقد مر شهران على عطلتي السنوية في مصر. كنت قد شاهدت وأصدقائي الانقلاب العسكري يتكشّف على شاشات التلفاز قبل شهرٍ واحد. انضممنا إلى الاعتصام في ميدان رابعة العدوية لنضيف أصواتنا إلى آلاف الأشخاص المتجمهرين هناك، المطالبين باحترام حقوقهم الديمقراطية.
هذا الصباح، تركت أصدقائي عمرو وصالح نائمين في خيمتنا وتوجهت إلى مقهى محلي بالقرب من طيبة مول (مجمع تجاري شهير بشرق القاهرة)، والذي أصبح مزارنا اليومي خلال الاعتصام. هناك، التقيت صديقاً آخر، محمد، والذي كان يعبث بكاميرته. عاش محمد بالقرب من الاعتصام، لذا كان يرجع عادة إلى منزله كل ليلة، لكنه، في هذه الليلة تحديداً، كان قد قرر البقاء.
وبينما أشرقت شمس اليوم السابع والأربعين من الاعتصام، لاحظت بسرعة أن شيئاً ليس على ما يرام.
في الناحية الأخرى من الشارع الذي كنت أجلس فيه، كان مبنى تابع للجيش ذا ثلاثة عشر طابق قد انتهى من وضع سورٍ جديد ثقيل، يحميه من أعلاه لأسفله. وجدت هذا غريباً للغاية، على اعتبار أن أحداً لم يحاول مهاجمة المبنى خلال الاعتصام.
الشيء الثاني الذي لاحظته هو سواتر رملية جديدة على سطح المبنى، تفصل بين كل منها بضعة أمتار، في مواجهتي.
كان شحن بطاريتي يتناقص. وأدركت، فقط حين حاولت توصيله بالمنفذ المعتاد الذي أستخدمه واكتشفت أن الكهرباء مقطوعة، أن شيئاً ما يحدث بالتأكيد، وأصبح نفاد شحن البطارية شأناً صغيراً.
رجعت إلى المقهى، أنظر إلى سطح المبنى وخيام المعتصمين المتمركزة أسفله، عندما ظهر رجل على السطح وصوّب بندقيته تجاه المتظاهرين، ثم اختبأ سريعاً. سألني مالك المقهى مذهولاً، "هل رأيت هذا أنت أيضاً؟". هُنا علمت ماذا يحدث. وبدأت التغريد حوله على موقع تويتر.
Definitely spotted a sniper on military building rooftop at Tiba. There is about 10 ppl up there. Unusual as they never stay up there. — Bondok (@mamzbondok) ١٤ أغسطس، ٢٠١٣
قناص
"رأيت يقينًا قناصاً على سطح مبنى عسكري في طيبة. هناك حوالي 10 أشخاص فوقه. وهو أمر غير معتاد لأنهم لا يبقون أبداً هناك".
كانت الساعة قد بلغت حوالي السادسة والنصف. تركت المقهى وقررت أن أتفقد ما يجري في الشوارع الخلفية، خلف طيبة مول وشارع أنور المفتي. كانت الطرق خالية، ولا شيء يبدو خارج المألوف.
في طريق عودتي، لاحظت رجلًا وطفلًا يشيران إلى الاتجاه المعاكس. التفتُّ لأرى، وسقط قلبي في قدمي. لقد بدأ الأمر.
ظهرت سيارة دفع رباعي في صمتٍ من شارع جانبي، مختبئة تقريباً عن الأنظار بفضل السواتر الترابية التي كدسها المتظاهرون عند المداخل والمخارج لحماية الاعتصام. لم أرَ الشرطة قط تستخدم مركبة كهذه من قبل، وكانت على بعد أقل من 20 متراً مني.
تبعثرت أفكاري، واشتعل عقلي، حتى أصبحت فكرة واحدة واضحة: اركض يا محمود.
وبينما استدرت وبدأت الركض، أطلقت أول عبوة غاز مسيل للدموع وسقطت على بعد أمتار مني.
الذعر
وبحلول الوقت الذي عدت فيه إلى الخيمة، كان الجميع قد استيقظوا. خيّم الذعر على الأجواء. وأجريت مكالمات لإيقاظ الأقارب والأصدقاء وإبلاغهم بالخبر.
ظهر القناصة وقوات الأمان على سطح المبنى العسكري والمقابل، وبدأوا في إطلاق النار. عند هذه المرحلة، كانت مشاعري قد توقفت عن العمل، لتحل محلها غرائز البقاء. يجري الناس مذعورين بينما يمطروننا بقنابل الغاز.. فوضى.
توقفت وأصدقائي لبرهة لنستجمع أفكارنا. غطينا وجوهنا لكيلا نستنشق الغاز المسيل للدموع. وكان نشاطنا على شبكة الإنترنت في أيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، قد علمنا أنه لإبطال مفعول عبوة الغاز علينا أن نضعها في دلو من الماء من نوعٍ ما. ومع محتجين آخرين، بدأنا في تجميع كل شيء يمكننا استخدامه كدلو وملأة بالماء من صنبور في مقهى قريب.
بدأت المنطقة تخلو من الناس الذين سعوا للاحتماء وحاولوا الهرب من الغاز المسيل للدموع. فجأة سقط متظاهر كان يقف على بعد بضعة أمتار مني، بلا حراك. لم يكن هناك وقت لتفقد ماذا حدث له: حملناه وركضنا به إلى شارع النصر الرئيسي، حيث وجدنا أشخاصاً على دراجات بخارية يحملون المصابين إلى المستشفى الميداني.
كان هذا شيء نفعله خلال المذابح السابقة في رابعة، وبينما نركض عائدين، لاحظت أنني في مرمى صف من القناصة على السطح المقابل.
عدنا إلى الشوارع الجانبية، واستمرينا في وضع عبوات الغاز في دلاء الماء. اشتدّت حدة إطلاق النار. كانوا يطلقون النار الآن على الشوارع الجانبية.
كان بإمكاننا سماع طلقات تأتي من شارع أنور المفتي. كانت نيران متقاطعة تأتي من جهات مختلفة. كانت الطلقات ترتد عن المباني على بعد أمتار قليلة منا. وجدنا ساتراً في زقاق قريب من المول. كنا عالقين ومحاصرين.
أدركنا بعدها بقليل أن زقاقنا له مدخل سهل الوصول إليه من قبل قوات الأمن. علينا أن نترك مكاننا في أقرب وقت ممكن، والطريقة الوحيدة للخروج كانت أن نركض في العراء، أمام أعين القناصة.
عند هذه النقطة، وبينما بطارية هاتفي في شرطتها الأخيرة، أجريت ما ظننته آخر مكالماتي الهاتفية. "لقد بدأ الأمر"، أخبرت شقيقي الأكبر، الذي كان في الإسكندرية في ذلك الوقت. كان نصف نائماً ولم يفهم ما أقول. قلت له "افتح التلفاز!".
أنهيت المكالمة وحاولت الاتصال بصديقي المقرب في لندن. لم يرد. أرسلت له صورة لوصيتي على واتسآب، متضمنة قائمة بديوني، ورسالة إلى أصدقائي وعائلتي. كنت قد بدأت في كتابتها بعد المذبحة الأولى التي شاهدتها في الميدان. أنهيتها في عجالة وأرسلتها.
كان الوقت ينفذ، ولم يكن هناك سوى طريق واحد إلى الأمان. وبدون مخرج آمن من الاعتصام، كنا مجبرين إلى العودة إلى قلب الاعتصام.
لجأنا إلى أسفل سلم خبأنا عن الأنظار من القناصة على الأسطح. كان هناك متظاهرن آخرون متجمعون هناك أيضاً. شاب يقف بالقرب منا خطا إلى الطريق أمامنا للحظة ليلقي نظرة على ما يحدث. سقط على الأرض فورًا.
رصاص في العنق
قفزنا إلى الأمام غريزياً وحملناه. لاحظنا أنّه تلقى رصاص في العنق. الدماء تنسكب في كل مكان. مزقت الرصاصة قطعة من لحم عنقه، لكنه كان لا يزال حياً.
كانت أولويتنا أن نبقى والمصابين الآخرين معنا على قيد الحياة. استخدم أحدهم قميصاً قصير الأكمام ليصنع ضمادّة ويضغط بها على الجرح.
كان علينا التحرك بسرعة لنخرج المصاب. حملته مجموعة من المتظاهرين، ومن ضمنهم صالح. انتظروا توقف إطلاق النار ليبدأوا الركض.
"الآن!" صرخ أحدهم، وركضوا خلال الطريق، ونجحوا في الوصول إلى الناحية الأخرى. كان دورنا، ومعي عمرو، التالي.
لم أستطع التفكير في عدم التمكن من العبور، لم يسمح لي عقلي حتى. لم نتبادل الكلمات، أخذنا أنفاسًا عميقة وركضنا. وعبرنا.
وبينما كنت أركض من النيران المتقاطعة، أصبح صدري ضيقاً فجأة، وسقطت على الأرض. لم أستطع التنفس. كان الغاز المسيل للدموع قد ملأ رئتي، لكننا لم نكن آمنين بعد.
قلت لعمرو، "لا أظن أنني أستطيع الحركة، لا أقدر على التنفس".
قال، "لا يمكننا البقاء هنا، يجب أن نذهب".
رفع رأسي ليسنده إلى الحائط، ووضع جهاز استنشاقه في فمي، وقال "تنفس". بعد نفختين، شعرت بصدري أنقى بكثير. وتمكنت من التنفس مرة أخرى. قلت، "هيا بنا".
توجهنا إلى المستشفى في منتصف الاعتصام، والذي كان يمكن الوصول إليه بطريق من اثنين.
عندما اقتربنا من الطريق الأول، والذي كان زقاقاً، استدار ضابط أمن مقنّع مرتدياً اللباس الأسود وشاهراً مسدسه، داخلاً الزقاق من شارع جانبي. التقت أعيننا للحظة، قبل يستدير عائداً إلى الشارع الجانبي، ويختفي عن الأنظار.
استدرنا فوراً وسرنا على أقدامنا إلى الطريق الموازي الثاني.
وعندما دخلنا الطريق، كانت مجموعة من المتظاهرين تركض باتجاهنا. صاحوا، "عودوا، لقد وصلوا. عودوا!" كنّا محاصرين وواقعين في المصيدة.
ركضنا إلى مربع من الشقق، وحاولنا فتح الباب طلباً للاحتماء. كان الباب مغلقاً وعند هذه النفطة لم يعد بالإمكان تفادي الفكرة التي كنت أحجبها عن عقلي للساعتين الماضيتين. لقد انتهى الأمر. الموت أو الاعتقال.
مستسلمون
جلسنا مستسلمين خلف ساتر مرتجل إلى جانب متظاهرين آخرين، ننتظر المحتوم.
تفقدت جيوبي، وشعرت بالراحة حينما وجدت جواز سفري معي، ليُمكن التعرف علي في حالة حدوث أي شيء. نفذت بطارية الهاتف، ولم نعرف بعد أين صالح.
فجأة، انفتح باب المربع السكني المقابل لنا. وصاح رجل، "ادخلوا".
ركضنا كلنا نحوه، ووجدنا عشرات المتظاهرين الآخرين المحتمين بالداخل، البعض منهم مصاب. لم نبلغ بر الأمان بعد، وعلينا أن نستمر في التحرك. ركضنا صاعدين السلالم في صمت. في الطابق الخامس، وجدنا غرفة تخزين خاوية، مساحتها حوالي مترين مربعين، وكدس ستة منا أنفسهم بالداخل، وأغلقوا الباب.
المروحية
لم يكن هناك أضواء، لا إشارة في الهواتف، ونافذة واحدة صغيرة. كان بإمكاننا سماع طلقات نيران لا تتوقف من الشوارع بالخارج. وسرينات الإنذار تدوي. وكان بإمكاننا سماع صوت مروحية تحلق على ارتفاع منخفض فوق الميدان، وضوضاء مكبر صوت المنصة المركز. كنا نعلم أن قوات الأمن يمكن أن تجدنا في أي لحظة وتقتلنا. لم نتبادل أي كلمة خوفاً من أن يسمعنا أحدهم ويجدنا.
مرّت ساعة، وقررنا تفقد إن كانت الأجواء خالية في الرواق. كانت هناك إشارة هاتفية في الرواق، ودخل عمرو إلى الانترنت وعلم أن 300 شخص قتلوا بالفعل. كان هذا في الظهيرة.
أحد المتظاهرين الذين كانوا معنا اتصل بصديق يعيش في المربع. أسرعنا صاعدين إلى الشقة. فتح لنا أحدهم الباب ووضع اصبعه على شفتيه طالباً منا أن نلتزم الهدوء.
الاختباء
بالداخل، كان هناك أكثر من 40 متظاهراً مختبئاً. كان الصمت مخيفاً. الستائر مغلقة، ولم يكن هناك كهرباء، والشيء الوحيد الذي نسمعه هو صوت الفوضى بالخارج. كان هناك أطفال، وشيوخ، وشباب. الرجل الذي فتح لنا الباب أخذ هواتفنا ثم أشار لنا لندخل إلى غرفة المعيشة.
"كيف الحال بالأسفل؟" همس واحد من المتظاهرين حين عثرنا على مكان نجلس عليه على الأرض. "هل أخلوا المعسكر أم أننا نصدهم؟".
لم يكن لدي إجابة. بقيت صامتاً.
بعض الناس على الأرض كانوا مصابين بطلقات نارية، والبعض الآخر كان يتعامل مع أعراض الغاز المسيل للدموع. تحرك طبيب وسط المصابين، معالجًا إياهم باستخدام الإمدادات الطبية المحدودة التي استطاع إيجادها. بين الحين والآخر يختفي إلى غرف أخرى من الشقة، حيث يوجد المزيد من المصابين.
كنا ما نزال لا نعرف إن كان صالح قد خرج من هناك سالماً، أو أين يمكن أن يكون؟ كان بإمكاننا سماع ضوضاء المنصة المركزية في رابعة؛ عنى هذا أن القوات الأمنية لم تفض الاعتصام بعد، وأنهم ما زالوا يبحثون عنا.
وفي حوالي السادسة، رجّت انفجارات عنيفة المبنى، وصمتت المنصة المركزية. علمنا حينها أن الأمر انتهى. لقد فضوا الاعتصام فعلًا.
تأرجحت بين النوم واليقظة، مستيقظاً خلال الأمسية على عدة انفجارات. وبينما مر الليل. تباطأت الطلقات النارية، وبدا أن المروحية تتحرك بعيدًا.
وفي الخامسة من صباح اليوم التالي، أيقظنا كلنا واحدٌ من المتظاهرين كان قد خرج ليعرف ماذا يحدث.
أخبرنا بأنهم قد أزالوا الاعتصام بالكامل، وفرضوا حظر تجوالٍ ينتهي في السابعة صباحًا. تواجد القوات الأمنية يتناقص، وقريباً سيكون الرحيل آمناً.
نصح كل المتظاهرين الملتحين بحلق لحاهم، إذ قال إن الشرطة في المنطقة تستهدف أي شخص تشتبه في مشاركته في الاعتصام.
الحريق
وما إن خطوت إلى الشارع حتى شممت رائحة شيء يحترق. كان عمال النظافة يكنسون، ويجمعون القمامة ويزليون الخيام المحطمة.
امرأة عجوز تقف بجانب المبنى نظرت إليّ، قالت "هل تحتاج إلى شيء؟" .
أخبرتُها أنني فقدت حذائي. ابتسمت ومدت يدها إلى حقيبة سوداء تحملها. أخرجت زوجاً من القباقيب وأعطته لي.
اتجهنا عائدين إلى مكان خيمتنا. كانت بركاً من الدماء على الأرض. تتناثر الأحذية والقباقيب والملابس على أرض الشارع. فوارغ الطلقات في كل مكان.
وجدنا الخيمة، محطّمة. أشخاص يحملونها بعيدًا، بينما أشياؤنا ملقاة على الأرض. وجدنا ملابسنا، ووجدت بطاقة مترو أنفاق لندن، وبطاقة الجامعة، ومفاتيح شقتي في المملكة المتّحدة، وألقيت بها في حقيبة رياضية ممزقة كنت أضع فيها ملابسي.
وجدنا طريقنا إلى الخارج. طريق خلفي خارج الميدان، واعين بأن قمصاننا الملطخة بالدماء ومناظرنا غير المرتبة ستفضح كوننا متظاهرين.
أحمد سنبل مات
اتصلنا بصالح لنتفقد ما إذا كان قد خرج حيًا. لقد نجا وهو بانتظارنا في الشقة التي مكثنا فيها خلال رحلتنا. هنا علمنا بمقتل واحد من أصدقائنا، أحمد سنبل. مساعد مدرس بالجامعة الأميركية بالقاهرة، عمره 24 عامًا فقط، وكان قد أمضى وقته في الاعتصام يساعد في المستشفى الميداني.
أوقفنا سيارة أجرة ووجدنا طريقنا إلى الشقة. كان لمّ شملنا بصالح حلوا ومرًا. في 15 ساعة من ضوء النهار، كما علمنا، قُتل المئات من الأشخاص.
كان هناك الكثير من الجنازات لنحضرها ذلك اليوم، لكننا لم نستطع أن نحمل أنفسنا على الذهاب. قضينا أغلب اليوم في صمت، عاجزين عن فهم ما قد شهدناه، في وسط المدينة.
عادت القاهرة إلى طبيعتها، كأن شيئًا لم يحدث. ذهب الناس إلى أعمالهم كالمعتاد، وفُتحت الطرق، كما لو أن 1000 شخص لم يُقتلوا توًا.
حرق المسجد
في المساء قررنا زيارة مسجد كان يتم استخدامه كمشرحة، بعد حرق مسجد رابعة من قبل قوات الأمن خلال الفض.
في اللحظة التي خطوت فيها إلى مسجد الإيمان اصطدمت برائحة قوية ضربت أسفل حلقي، مثل مزيج من الدم والعرق، ورائحة احتراق نفاذة. كانت رائحة يمكنني حرفيًا ابتلاعها.
على الأرض، من المدخل إلى آخر المسجد، كانت صفوف وصفوف من الجثث الملفوفة في الأكفان.
قائمة بالأسماء كانت موضوعة بالقرب من المدخل لكي تجد العائلات أحبائهم. النساء يجلسن بجانب الجثث الخالية من الحياة لأبنائهن، أزواجهن أو آبائهن.
كان الرجال ينهارون لدى العثور على أحبائهم ملتفين بكفن. صمتٌ مخيف يخيم على الأجواء، تقطعه شهقات الصدمة، أو عويل كسارى القلوب.
كان هناك قسم يحظى بالاهتمام الأكبر، محاط بالمصورين والصحفيين. وبينما اقتربت، اشتدت رائحة الحريق. وكانت هناك مكعبات كبيرة من الثلج فوق الجثث.
أحد الأطباء سحب الكفن من على رأس إحدى الجثث، أو ما تبقى منها. كان الرأس أسود، وجزء من الجمجمة مفقود. تطلب الأمر عدة لحظاتٍ لأدرك ما كان يريني إياه، هؤلاء الأشخاص أحرقوا أحياءً.
لم يحاسب أحد
حتى يومنا هذا، لم يُحاسب شحص واحد على أفعاله في رابعة. بالطبع، من أصدر الأمر بإخلاء الميدان، القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك، عبد الفتاح السيسي، أصبح بعدها رئيساً للجمهورية.
شهدنا في هلعٍ رئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كاميرون، بعد عامين فقط، يضع السجادة الحمراء في لندن من أجل السيسي، الرجل المسؤول عن قتل أصدقائنا، وآلاف آخرين، من ضمنهم المواطن البريطاني، مصور سكاي نيوز المحترف، ميك دين.
وعندما انقشع الغبار عن رابعة، كان الصدع الهائل في المجتمع المصري أعمق بكثير مما يمكن تخيله. شاهدنا أصدقاءً وعائلات، نشطاء وهؤلاء الي يدعون أنفسهم داعمين لحقوق الإنسان يهللون لمذبحة، كما لو كانت دماء رفاق الوطن لا قيمة لها.
كان اكتشافًا مدمّرًا. اتهمونا بأننا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، عاجزين عن فهم أن أشخاصًا من كافة التوجهات السياسية اجتمعوا في رابعة للتعبير عن موقفهم ضد الانقلاب.
وبرغم المحنة التي مررت بها، كان هناك جانب مشرق واحد: بعد يومين من المذبحة، أرسل لي أحدهم تغريدة أمل، وبعد عام ونصف، أصبحت زوجتي. بالنسبة لنا، 14 أغسطس/آب 2013 سيذكرنا دومًا باليوم الذي وجدنا فيه فرصة ثانية للحياة.
- هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
المصدر: هافينغتون بوست عربي - Tarek Farhat
↧