أنا مع الإرهاب
نزار قباني
متّهمونَ نحنُ بالإرهاب
إن نحنُ دافعنا عن الوردةِ
والمرأةِ
والقصيدةِ العصماءْ
وزرقة السماءْ
عن وطنٍ لم يبقَ في أرجائه
ماءٌ... ولا هواءْ
لم تبقَ خيمةٌ.. أو ناقةٌ
أو قهوةٌ سوداءْ
متّهمون نحنُ بالإرهاب
إن نحنُ دافعنا بكلِّ جرأةٍ
عن شعرِ بلقيسَ..
وعن شفاهِ ميسون..
وعن هندٍ.. وعن دعدٍ..
وعن لُبنى.. وعن ربابْ
عن مطرِ الكُحلِ الذي
ينـزلُ كالوحيِ من الأهدابْ!
لن تجدوا في حوزتي
قصيدةً سريّة..
أو لغةً سريّة..
أو كتباً سريّةً أسجنها في داخل الأبوابْ
وليسَ عندي أبداً قصيدةٌ واحدةٌ
تسيرُ في الشارعِ وهي ترتدي الحجابْ
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ
إن نحنُ كتبنا عن بقايا وطنٍ..
مخلّعٍ.. مفكّكٍ.. مهترئٍ
أشلاؤهُ تناثرت أشلاءْ...
عن وطنٍ يبحثُ عن عنوانهِ..
وأمةٍ ليسَ لها سماءْ
عن وطنٍ.. لم يبقَ من أشعارهِ
العظيمةِ الأولى...
سوى قصائدِ الخنساءْ
عن وطنٍ لم يبقَ في آفاقه
حريةٌ حمراء.. أو زرقاءُ.. أو صفراءْ
عن وطنٍ.. يمنعنا أن نشتري الجريدةَ..
أو نسمعْ الأنباءْ...
عن وطنٍ، كلُّ العصافير فيهِ
ممنوعةٌ دوماً من الغناءْ...
عن وطنٍ...
كتابهُ تعوّدوا أن يكتبوا..
من شدّةِ الرُّعب..
على الهواءْ!
عن وطنٍ، يشبهُ حالَ الشّعر في بلادنا
فهوَ كلامٌ سائبٌ..
مُرتَجلٌ..
مستوردٌ..
وأعجميُّ الوجهِ واللّسانْ..
فما لهُ بدايةٌ..
ولا لهُ نهايةٌ..
ولا لهُ علاقةٌ بالناسِ..
أو بالأرض..
أو بمأزقِ الإنسانْ
عن وطنٍ..
يمشي إلى مفاوضاتِ السّلمِ..
دونما كرامةٍ..
ودونما حذاءْ!
عن وطنٍ رجالهُ بالوا على أنفسهم خوفاً
ولم يبقَ سوى النساءْ
الملحُ... في عيوننا
والملحُ في شفاهنا
والملحُ في كلامنا
فهل يكونُ القحطُ في نفوسنا..
إرثاً أتانا من بني قحطانْ؟
لم يبقَ في أمّتنا معاويةٌ..
ولا أبو سفيانْ..
لم يبقَ من يقولُ "لا"
في وجهِ من تنازلوا..
عن بيتنا.. وخبزنا.. وزيتنا..
وحوّلوا تاريخَنا الزاهي..
إلى دُكّان!
لم يبقَ في حياتنا قصيدةٌ..
ما فقدتْ عفافها..
في مضجعِ السّلطانْ
لقد تعوّدنا على هوانِنا
ماذا من الإنسان يبقى...
حين يعتادْ على الهوانْ؟
أبحثُ عن دفاترِ التاريخِ..
عن أسامةِ بن منقذ..
وعقبةُ بن نافع..
عن عمرٍ.. عن حمزةٍ..
عن خالدٍ يزحفُ نحوَ الشّام
أبحثُ عن معتصمٍ بالله..
حتّى ينقذَ النساءَ من وحشيّة السّبيِ..
ومن ألسنةِ النيرانْ
أبحثُ عن رجالِ آخرِ الزمانْ...
فلا أرى في الليلِ إلا قططاً مذعورةً..
تخشى على أرواحها..
من سُلطةِ الفئرانْ!
هل العمى القوميُّ.. قد أصابنا وهو أبكم
أم نحنُ نشكو من عمى الألوانْ؟
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ..
إذا رفضنا موتَنا..
بجرّافاتِ إسرائيلَ..
تنكشُ في ترابنا..
تنكش في تاريخنا..
تنكشُ في إنجيلنا..
تنكشُ في قرآننا..
تنكشُ في ترابِ أنبيائنا..
إن كانَ هذا ذنبُنا..
ما أجملَ الإرهابْ!
متّهمون نحنُ بالإرهابْ
إذا رفضنا محوَنا
على يدِ المغولِ.. واليهودِ.. والبرابره
إذا رمينا حجراً..
على زجاجِ مجلسِ الأمنِ الذي
استولى عليهِ قيصرُ القياصرهْ
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ
إذا رفضنا أن نفاوضَ الذئبَ
وأن نمدَّ كفّنا لعاهره!
أمريكا...
ضدّ ثقافاتِ البشرْ..
وهي بلا ثقافه..
ضدّ حضاراتِ الحضرْ..
وهي بلا حضاره
أمريكا.. بنايةٌ عملاقةٌ..
ليسَ لها حيطانْ
متّهمون نحنُ بالإرهابْ..
إذا رفضنا زمناً
صارتْ به أمريكا
المغرورةُ.. الغنيةُ.. القويّه
مترجِماً مُحلّفاً..
للّغةِ العبريّه!
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ
إذا رمينا وردةً..
للقدسِ..
للخليلِ..
أو لغزّةَ..
والناصره..
إذا حملنا الخبزَ والماء..
إلى طروادةَ المحاصره..
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ
إذا رفعنا صوتنا
ضد الشعوبيّين من قادتنا..
وكلِّ من قد غيّروا سرجهم..
وانتقلوا من وحدويّينَ..
إلى سماسره!
إذا اقترفنا مهنةَ الثقافه..
إذا تمرّدنا على أوامرِ
الخليفةِ العظيمِ.. والخلافه..
إذا قرأنا كتاباً في الفقهِ.. والسياسه
إذا ذكرنا ربّنا تعالى..
إذا قرأنا سورةَ الفتحِ
وأصغينا إلى خطبةِ يومِ الجمعه..
فنحنُ ضالعونَ في الإرهابْ!
متّهمونَ نحن بالإرهاب...
إن نحنُ دافعنا عن الأرضِ،
وعن كرامةِ الترابْ
إذا تمرّدنا على اغتصابِ الشعبِ
واغتصابنا...
إذا حمينا آخرَ النخيلِ في صحرائنا
وآخرَ النجومِ في سمائنا
وآخرَ الحروفِ في أسمائنا
وآخرَ الحليبِ في أثداءِ أمّهاتنا
إن كانَ هذا ذنبُنا..
ما أروعَ الإرهابْ!
أنا معَ الإرهابْ...
إن كانَ يستطيعُ أن ينقذَني
من المهاجرينَ من روسيا...
ورومانيا، وهنغاريا، وبولونيا...
وحطّوا في فلسطينَ على أكتافنا...
ليسرقوا مآذنَ القدسِ..
وبابَ المسجدِ الأقصى..
ويسرقوا النقوشَ...
والقبابْ
أنا معَ الإرهابْ...
إن كانَ يستطيعُ أن يحرّرَ المسيحَ..
ومريمَ العذراءْ...
والمدينةَ المقدّسه..
من سفراءِ الموتِ والخرابْ
بالأمسِ..
كانَ الشارعُ القوميُّ في بلادنا...
يصهلُ كالحصانْ
وكانتِ الساحاتُ أنهاراً..
تفيضُ عنفوانْ
... وبعدَ أوسلو..
لم يعدْ في فمنا أسنانْ
فهل تحوّلنا إلى شعبٍ...
من العميانِ والخرسانْ؟
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ..
إن نحنُ دافعنا بكلِّ قوّةٍ...
عن إرثنا الشعريِّ..
عن حائطنا القوميِّ..
عن حضارةِ الوردةِ..
عن ثقافةِ الناياتِ في جبالنا..
وعن مرايا الأعينِ السوداءْ
متّهمونَ نحنُ بالإرهابْ
إن نحنُ دافعنا بما نكتبهُ..
عن زرقةِ البحر...
وعن رائحةِ الحبرِ...
وعن حريّةِ الحرف...
وعن قدسيّةِ الكتابْ...
أنا معَ الإرهابْ
إن كانَ يستطيعُ أن يحرّرَ الشعبَ..
من الطغاةِ والطغيانْ
وينقذُ الإنسانَ.. من وحشيّةِ الإنسانْ
ويرجعُ الليمونَ، والزيتونَ
والحسّونَ...
للجنوبِ من لبنانْ
ويرجعُ البسمةَ للجولانْ
أنا معَ الإرهابْ
إن كانَ يستطيعُ أن ينقذني..
من قيصرِ اليهودِ..
أو من قيصرِ الرومانْ..
أنا معَ الإرهابْ
ما دامَ هذا العالمُ الجديدُ..
مقتسماً
ما بينَ أمريكا.. وإسرائيل..
بالمناصفه
أنا مع الإرهابْ..
بكلِّ ما أملكُ من شعرٍ.. ومن نثرٍ
ومن أنيابْ
ما دامَ هذا العالمُ الجديدُ..
بين يديْ قصّابْ!
أنا معَ الإرهابْ
ما دامَ هذا العالمُ الجديدُ..
قد صنّفنا من فئة الذباب
أنا معَ الإرهابْ
إن كانَ مجلسُ الشيوخِ في أمريكا...
هو الذي في يدهِ الحسابْ
وهو الذي يقرّرُ الثوابَ..
والعقابْ
أنا معَ الإرهابْ
ما دامَ هذا العالمُ الجديدُ..
يريدُ أن يذبحَ أطفالي..
ويرميهمْ إلى الكلابْ!
من أجلِ هذا كلّهِ...
أرفعُ صوتي عالياً:
أنا معَ الإرهابْ!
أنا معَ الإرهابْ!
أنا معَ الإرهابْ!
↧