هافينغتون بوست عربي-
استعمرت هولندا إندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان في القرن الماضي، ومن هنا نشأ اهتمام هولندي بالغ بالإسلام وأحوال المسلمين، كانت أحد نتائجه إصدار أول ألبوم مصور لمكة والمدينة وأول فيلم وثائقي أوروبي عن مناسك الحج.. فكيف تم ذلك؟
ويقول الدكتور عمرو رياض في حديث لـ"هافينغتون بوست عربي"، إن هذا الاهتمام الهولندي أنتج عملين مهمين عن الحج بأيد هولندية:
" تم التقاط أول ألبوم صور أوروبي في مكة المكرمة عام 1885 على يد المستشرق الهولندي كريستيان سنوك هورخرونية، كما تم تصوير أول فيلم وثائقي أوروبي صامت عن الحج على يد المخرج الهولندي -من أصل إندونيسي- جورج ألبرت إدوارد كروخرز، في عام 1928.. وكان كروخرز نفذ بعض الأفلام الوثائقية عن الجزر الإندونسية في ذلك الوقت، كما أسس شركة "جاوة للسينما" في المستعمرات الهولندية".
عبد الغفار سنوك هورخرونية
في الوقت الذي كان الهولندي سنوك هورخرونية يجهز أطروحته للدكتوراه في جامعة لايدن عن موضوع الحج أواخر عقد السبعينيات القرن التاسع عشر، كانت الدوائر السياسية الهولندية -بحسب الباحث المصري- قلقة من تنامي الثورات في المستعمرات، والتي كان يعتقد بالأساس أن رياحها تأتي من مكة.
وفي عام 1880 أنهى سنوك أطروحته تحت عنوان "العيد المكي"، وعمل بعدها أستاذاً للدراسات الإسلامية في المدرسة التي أسست لتدريب موظفي الدولة المبتعثين للعمل في المستعمرات. وفي هذا الوقت زار كراوت القنصل الهولندي في جدة هولندا وألقى محاضرة عن الخطر المحتمل الذي يحمله الحجاج، مما يستدعي قيام باحث هولندي بخوض مغامرة الذهاب إلى المملكة لإجراء بحث شامل عن المنطقة والحجاج، يمكن الاستفادة منه في فهم ما يجري من الأحداث هناك.. وهكذا سافر سنوك هورخرونية مع القنصل الهولندي في أغسطس 1884 إلى جدة، ليبدأ رحلة البحث عن الحجاج ومكة، والتي كانت تمول الدوائر السياسية الاستعمارية جزءاً كبيراً منها.
وقبل السفر اشترى سنوك هورخرونية كاميرا وتعلم التصوير. وفي جدة أقام في بادئ الأمر في القنصلية الهولندية معنيا بالأساس بمقابلاته مع الحجاج الجاووين الذين كان لزاماً عليهم المرور على القنصلية للتسجيل بعد الوصول وقبل الذهاب إلى مكة. وفي بهو القنصلية أعد سنوك ستوديو لتصوير حجاج إندونيسيا مع تدوين بعض الملاحظات عن سلوكياتهم. لكنه لم يستطع التقاط صور في الشارع نظراً لحساسية الموضوع. إلا أنه بدأ في إقامة علاقات بأشخاص مهمين في المدينة من خلال صداقته مع بعض الجاووين المقيمين في جدة أو في مكة، والذين كانوا يترددون على المدينة، ونجح في دخول بيوت بعض أهل جدة للتصوير مما سهل عليه تسجيل ملاحظات أكثر إثارة عن حياة أهل هذه المدينة.
وبعد عدة أشهر كما يقول رياض لـ"هافنغتون بوست عربي" انتقل هورخرونية إلى السكن في بيت صديق إندونيسي كان يعيش في مكة. وهناك أعلن نيته اعتناق الإسلام، واتخذ اسم "عبد الغفار"، وطلب دخول مكة، وتم السماح له بذلك. فدخلها في مساء الحادي والعشرين من مارس 1885. وقام مباشرة بدخول الحرم للقيام بطواف تحية الكعبة. وفي الصباح ذهب للقاء الشيخ زيني دحلان مفتي الشافعية في الحرم، وبعدها تعرف على الشيخ عبد الله الزواوي أحد أعلام علماء مكة كذلك، وصارت بينهما صداقة استمرت لأعوام. وهناك بدأ سنوك صفحته الجديدة كأول مصور أوروبي في مكة.
حيلة للتصوير
ولم يتمكن سنوك هورخرونية من تصوير المناظر العامة في العلن، واقتصر على تصوير الأشخاص من جنسيات مختلفة.
وساعده في التصوير شخص يسمى عبد الغفار يعمل طبيباً في مكة، والذي اتخذ سنوك بيته ستوديو لاستقبال من يريد التصوير، وأحياناً أخرى كان يذهب إلى بيوت الولاة والتجار للتصوير أيضا. وقد حاول عبد الغفار الطبيب الاتصال ببعض علماء مكة لإصدار فتوى بإباحة التصوير لكنه فشل.
وفي مكة ظل سنوك هورخرونية يجمع الكثير من الملاحظات التي شكلت الوعي السياسي والأكاديمي في هولندا في هذا المجال لسنوات. وفي أوائل أغسطس 1885 اضطر إلى الهرب من الحجاز خوفاً على حياته قبل موسم الحج، بعد تورطه في خلاف مع القنصل الفرنسي الذي أذاع خبر إسلام سنوك هورخرونية في باريس.
وبعد وصول سنوك هورخرونية إلى مدينة لايدن الهولندية ظل على اتصال بالطبيب الذي احتفظ بكاميرا صديقه الهولندي، واستمر في التصوير وإرسال الصور إلى هولندا، كما ظل سنوك هورخرونية يرسل الرسائل التوجيهية لما يريده من صور الكعبة والشوارع والطقوس والنساء والعبيد والجبال وشيوخ القبائل، ثم بدأ سنوك ينشر أول ألبوماته التصويرية عن مكة، ويقدم أبحاثه في مؤتمرات المستشرقين دون الإشارة في كثير من الأحيان إلى جهد عبد الغفار الطبيب في أخذ الصور.
وبسبب شهرته من وراء هذه الصور والدراسات المكية، رشح سنوك للعمل كمستشار للحكومة الهولندية في الشؤون العربية والإسلامية في جاوة بجنوب شرق آسيا عام 1889، حيث مكث هناك حتى عام 1906 يكتب تقارير واستشارات مهمة اعتمدت عليها السياسة الهولندية في إندونسيا بما في ذلك الحرب الضارية في جزيرة آتشه. وبعد رجوعه إلى لايدن أصبح أستاذ كرسي الدارسات السامية في لايدن، وظل يكتب وينشر عن مكة والحج، الذي تمنى يوماً ما أن يشهده، لكنه لم يستطع.
أول وثائقي عن الحج.. "عيد مكة الكبير"
في العام 1928 توجه المخرج كروخرز مع وفد الحجيح القادمين من الجزر الإندونسية بكاميرا تصوير يسجل بها مشاهد الحج في صورة متحركة للمرة الأولى في التاريخ، ودخل مكة معهم في ملابس الإحرام على أنه مسلم لكنه لم يكن كذلك.
وقام بالتصوير أحياناً في سرية عن طريق كاميرا وضعها في جراب صممه خصيصاً بثقب للعدسة يمكن حمله على الكتف من دون أن يلاحظه أحد
وليس من قبيل الصدفة أن يسمي كروخرز فيلمه "عيد مكة الكبير"، مقتبِساً ذلك من عنوان رسالة سنوك التي قدمها لنيل الدكتوراه في لايدن قبل أكثر من أربعين سنة.
وقد تم عرض الفيلم في سينما مدينة لايدن للمرة الأولى في 8 نوفمبر 1928، بحضور ولية العهد الأميرة يوليانا، وبتقديم سنوك الذي أصبح في هذا الوقت اسماً لامعاً كأكبر مستشرق هولندي. وقد لاقى العرض الأول في هولندا اهتماماً كبيراً بحضور وزير المستعمرات، ورؤساء إدارات المستعمرات، والقنصل في جدة، والعديد من الأساتذة في لايدن وغيرها، وزملاء الأميرة يوليانا في الجامعة حيث كانت تدرس في لايدن، والكثير من أعضاء الجمعية الشرقية في هولندا، وممثلين عن شركات البواخر الهولندية الكبيرة. ويقال إن شركات السفن قد مولت جزءاً كبيراً من إنتاج هذا الفيلم ليستخدم كدعاية لخدماتهم في الحج في الجزر الإندونيسية..
وقد اهتمت الصحافة الهولندية في هذا الوقت بالفيلم وأثنت عليه وعلى جاذبية المناظر الطبيعية المتحركة في الفيلم، والتي تلتقط لأول مرة لوصول سفينة إلى جدة محملة بالآلاف من المسلمين من أجناس مختلفة، والصورة البانورامية لمدينة جدة، والمساجد، ومراكز تسوق الحجاج، وإلى ذلك من مناسك الحج في مكة والمدينة.
↧