لطالما صدّرت المعارضة السورية مقولة "النظام الغبي"، إلا أنه على مدى سنوات الثورة تبيّن أن النظام يتبع إستراتيجية منظّمة، تنطلق من معرفة أكثر من أمنية صرفة، ببنى المجتمع السوري وتكويناته وتناقضاته. وهدفت تلك الاستراتيجية إلى تذرير المجتمع السوري، وتعطيل قواه الكامنة، عبر جرِّ الثورة إلى ممرات إجبارية؛ ابتداءً بالعسكرة مروراً بالتشرذم وليس انتهاءً بـ"التطرف" الناتج عن سياسة "اللاخيار". رئيس فرع "الأمن العسكري" في المنطقة الجنوبية وفيق ناصر، أحد أعمدة هذه الإستراتيجية، وهو الحاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ والعلاقات الدولية، والحاكم الفعلي للمنطقة الجنوبية التي تشمل السويداء وأجزاء من درعا والقنيطرة الواقعة تحت سيطرة النظام. عندما اندلعت الثورة من درعا، حاول ناصر أن يفعّل الثنائيات الضدية داخل مجتمع السويداء الدرزي مع محيطها السني؛ فلعب على وتر الطائفية والمناطقية والحساسيات التاريخية، مؤسّساً لثنائيات متناحرة: سنة-دروز ودروز-بدو ودرعا-السويداء ومعارضة-موالاة. وبحسب تقاطع المعلومات المتوافرة عن ناصر، فهو يتصف بعقل بارد وغير منفعل بالأحداث، ويتحكم بردود أفعاله ولغة جسده. كما أنه ليس لديه ثقة بأحد من عناصره ويفضل أن يتابع جميع الملفات بنفسه. استفاد ناصر من المؤسسة الدينية الدرزية الرسمية "مشيخة العقل" ليضفي على ممارساته شرعية اجتماعية؛ وقبل كل عمل كبير ينوي القيام به يحرص على أن يأخذ تفويضاً به من قبل الزعامات الدينية والاجتماعية، عبر استدعائهم إلى "مضافته" في الفرع ذاته. والمضافة هي مكان الاستقبال في بيوت الوجهاء، كتقليد اجتماعي درزي، لمناقشة جميع القضايا المرتبطة بالعائلة والمجتمع. ويراعي ناصر في "مضافته" العادات والتقاليد والطقوس المتعارف عليها في المحافظة؛ من احتفال بالضيوف وشرب القهوة المرّة وتقديم الطعام "المناسف". وبعدها يحصل ناصر على التفويض الذي يريده من خلال صكّ أو بيان مكتوب، كما حدث قبيل اغتيال زعيم "مشايخ الكرامة" الشيخ وحيد البلعوس، عندما وقّع "مشايخ العقل" ومجموعة من الزعامات التقليدية، صكاً فحواه رفض السلاح "غير الشرعي" وملاحقته. وقد يعمد ناصر إلى تصوير "فيديو"، قد يُنشرُ مسرباً، كما حدث بعد اغتيال البلعوس، عندما ظهر "مشايخ العقل" وبعض الزعامات التقليدية في "مضافته" وهم يؤكدون على توجيهاته، ويفوضونه باجتثاث حركة "رجال الكرامة". وعبر تاريخ الدروز لم يستطع أحد من خارج المؤسسة الدينية أن يطلق "الحرم الديني" أو "البعدة" على أحد من داخلها، لكن هذا حصل عندما أوعز وفيق ناصر لـ"مشايخ العقل" بإصدار "البعد الديني" بحق الشيخ البلعوس. كما يُعرف عن ناصر قدرته الكبيرة على الابتزاز؛ ويقال إنه يحوز ملفات فساد أخلاقي ومالي لأغلب المتعاونين معه، من مشايخ وزعامات اجتماعية وشبيحة، ومن خلالها يضمن ولاء هؤلاء به كلياً، خوفاً من المحاسبة أو الفضيحة الاجتماعية. ونتيجة لقدرته على المناورة والابتزاز، دفع نسبة ليست بالقليلة من المعارضة في المنطقة الجنوبية، إلى توقيع "تسوية وضع" لدى "الجهات المختصة"، من دون إجراء تحقيقات كما "الأصول" المتبعة. فهو يعمل بعقلية "المافيا" لكنه يُصرُّ شكلياً على "هيبة الدولة" وموقعه كـ"رجل دولة". منذ انطلاق الثورة لم يعمد ناصر إلى المواجهة المباشرة مع المعارضين في السويداء، بل أقام عقداً ضمنياً مع الشرائح الدنيا في المجتمع: "أغض النظر عن أفعالكم الشائنة مقابل إخماد أي حراك مجتمعي في المحافظة". فتشكلت طبقة "الشبيحة" من الدروز لمواجه المعارضين الدروز، ما ساهم في اضعاف الحراك الثوري، وضبضه من خلال العلاقات القرابية. وتطورت "الشبيحة" في السويداء لتصبح عصابات منظمة تسطو وتنهب وتعيث فساداً في المجتمع، لترده إلى حظيرة الولاء تبعاً لشعوره بالحاجة إلى "حماية الدولة"، بعدما بدأ يتمرد عليها تدريجياً. يعمل وفيق ناصر على استثمار وتوظيف الأحداث الخارجة عن إرادته ويلوي عنقها لصالحه غالباً. وفي كثير من الأحيان يتعامل مع الواقعة لا لإنهائها، بل لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب منها. ويروي أحد الناشطين أن ناصر أمر بعض عناصره بتصوير المظاهرات التي حدثت في السويداء في إطار حملة "حطمتونا" العام الماضي، وزوّد بمقاطع منها وفد النظام المفاوض في جنيف. وذلك بغرض أن يثبت وجود معارضة تعبّر عن رأيها في الشارع ولا تتعرض للقمع، ومن ثم فالحرب في سوريا ليست على المعارضة والشعب بل على "الإرهاب والإرهابيين". وبعد أن انتهت جولة المفاوضات، أوعز ناصر للشبيحة بإنهاء حالة الاحتجاج بالعنف. وبالفعل تمّ ذلك. ويتنقل ناصر بين السويداء ودرعا، بشكل مستمر، ويقود عمليات الأمن العسكري في المحافظتين، بما يتضمن نشر السيارات المفخخة، والقصف بالهاون على التجمعات السكانية، كرسائل صارت مفهومة لا يخطئها أحد. كما سعى ناصر لاقامة علاقة متناغمة مع تنظيم "الدولة الإسلامية" في المنطقة الحدودية بين المحافظتين، وشمالي السويداء. علاقة تتضمن تنسيق الهجمات، وتنويع الأهداف، بما يخدم أجندة النظام. ويروى عن الحاكم العسكري المطلق للمنطقة الجنوبية، تباهييه أمام زواره مطلع الثورة، بعرض مقاطع "فيديو" عن عمليات "الإرهابيين" في درعا، قبل وقوعها. قد لا يكون وفيق ناصر، استثناءً بحد ذاته، لكنه يُمثلُ مجتمع السلطة الحقيقية في النظام السوري. وهو مجتمع، قيل عن عنفه وبطشه وإجرامه الشيء الكثير، لكن وصفاً واحداً لم يعد ينطبق عليه: الغباء.
المصدر: المدن - همام الخطيب
↧