تتخوف باريس من أن يفضي اشتعال كثير من جبهات القتال في سوريا مترافقا مع تصاعد التوتر الدبلوماسي والسياسي والحرب الإعلامية بين واشنطن وموسكو إلى «وأد» الاتفاق الذي توصل إليه الوزيران كيري ولافروف في التاسع من الشهر الحالي في جنيف. وترى مصادر فرنسية أنه إذا لم ينجح الطرفان الأميركي والروسي أولا في خفض التوتر بينهما والعودة إلى العمل معا من أجل فرض «التهدئة» على الأطراف المتقاتلة في سوريا خلال الاجتماع الثنائي المرتقب في نيويورك بين الوزيرين، غدا الجمعة، فإن اتفاقا جديدا أو ترميم الاتفاق الأخير «لن يكونا ممكنين قبل أسابيع أو أشهر»، لا بل إن نيويورك قد تكون «الفرصة الأخيرة». وأهمية ما يحصل في نيويورك أن كل الأطراف ذات العلاقة متواجدة في المدينة الأميركية، ما من شأنه أن «يسهل» التواصل بين كيري ولافروف وباعتبار أن أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة تجعل الملف السوري على رأس الاهتمامات الدولية وتشكل عامل ضغط كبير على الطرفين اللذين «يستأثران» إلى حد بعيد بالملف السوري. فضلا عن ذلك، فإن نيويورك قد تكون آخر «استحقاق» جدي للتعاطي بالملف السوري، في حين يقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ومعها «يضعف» موقف الإدارة الراحلة ويتحول البيت الأبيض إلى ما يسمى «البطة العرجاء».
من هذا المنظور، وبسبب عجز «الثنائي الدولي» عن تفعيل اتفاق جنيف الأخير، فإن باريس ترى أن الحرب ستزداد عنفا وأنها ستتركز على حسم مصير مدينة حلب التي تعد، إلى حد كبير «الكفة الوازنة» في مآل المأساة السورية. وتضيف هذه المصادر التي تحدثت إليها «الشرق الأوسط» أن النظام سيعتبر، في حال نجح في السيطرة على كامل المدينة بدعم الطيران الروسي والميليشيات التي تحارب إلى جانبه، أنه «ربح الحرب وبالتالي لن يكون مستعدا لأي تنازل أو الدخول في أي عملية انتقال سياسي، خصوصا أن موسكو «لن تجد سببا» في الضغط من أجل «لي ذراع» النظام وحمله على تقبل الحل السياسي الذي يعني عملية انتقال سياسية.
هذا التخوف الفرنسي وجد أصداء له في الكلمة التي ألقاها الرئيس فرنسوا هولاند أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أول من أمس، حيث اعتبر أن «مصلحة روسيا تكمن في الضغط على النظام (السوري) لأن الدعم الذي يوفره له لن يمكنه من إعادة فرض هيمنته على البلاد، ولكنه بالمقابل سيدفع باتجاه تقسيم سوريا والدخول في حال من الفوضى أكبر من التي نعرفها اليوم». وإذ اعتبر الرئيس الفرنسي أنه يتعين التمسك بالاتفاق الأميركي - الروسي، فإنه شدد على تحقيق أربعة مطالب: إعادة فرض وقف الأعمال العدائية، وضمان الوصول الفوري للمساعدات الإنسانية، والعودة إلى المفاوضات السياسية وأخيرا معاقبة النظام السوري بسبب استخدامه الأسلحة الكيماوية.
تعتبر باريس، أكثر من أي وقت مضى وبسبب الجري الأميركي وراء موسكو، أن مفاتيح الحرب والسلام في سوريا موجودة في العاصمة الروسية. وقالت المصادر الفرنسية الرسمية، التي تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، إن باريس، رغم انعدام وسائل الضغط التي تمتلكها في تعاطيها مع الجانب الروسي، ما زالت تركز في اتصالاتها الرسمية على مجموعة من «الحجج» للتأثير عليه. وأولى حججها تنبيه موسكو أنها في طريقها إلى «أفغانستان جديدة» وأن نجاحات النظام الميدانية «ما كانت لتتحقق من غير الدعم الروسي، وبالتالي فإن النظام سيكون عبئا على موسكو سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا»، مضيفة أن الأسد سيكون أشبه بـ«قرضاي موسكو»، في إشارة إلى الرئيس الأفغاني السابق الذي احتضنته واشنطن لسنوات، لكنه كان في النهاية عاجزا عن وضع حد للحرب في بلاده.
تقول المصادر الفرنسية إن موسكو كانت دائما تصم أذنيها عن هذه الحجج وعن حجج أخرى، منها أن استمرارها في دعم النظام سيحدث شرخا كبيرا داخل المجتمع السوري حيث «لن تقبل شرائح واسعة منه» استمرار سلطة الأسد وسيدفع بكثيرين إلى الالتحاق بالتنظيمات المتطرفة، ما سيزيد من مخاطر العمليات الإرهابية في سوريا والعالم. فضلا عن ذلك، فإن الانحياز الفاضح لروسيا إلى جانب النظام «سيقطعها عن البلدان السنية» في المنطقة وسيجعل سوريا في معزل عن محيطها الطبيعي. ومن جانب آخر، تركز باريس على أن الحرب ستنتهي «يوما ما» وعندها سيتعين إعادة إعمار سوريا. ولذا، فإنها تتساءل: من سيكون جاهزا للمساهمة في هذا الإعمار الذي سيكلف مئات المليارات من الدولارات التي لا تمتلكها روسيا، بالنظر لضعف اقتصادها؟، وبالتالي فإن الدول الغربية لن تكون جاهزة للمشاركة وكذلك «وخصوصا» دول الخليج.
بيد أن هذه الحجج لا تبدو كافية بنظر موسكو التي تسعى، وفق باريس، لتحقيق مجموعة من الأهداف، أولها أن يبقى الحكم في دمشق تحت تأثيرها، ولذا تتخوف من أن التخلي عن الأسد قد يأتي إما بنظام معاد أو سيفضي إلى استقواء التنظيمات الإرهابية. لكن الأهم من ذلك، أن الرئيس الروسي، بحسب باريس، يريد أمرين متلازمين: تحقيق هدف في المرمى الأميركي من جهة، و«مقايضة الملف السوري بمكان آخر»، قد يكون ذلك، العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلاده بسبب «مغامرة» أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم أو الانتشار العسكري الأطلسي في الجوار الروسي المباشر. أما النقطة الأخيرة التي تشير إليها المصادر الفرنسية، أن موسكو ربما تريد أن تبقي ورقة سوريا في يدها بانتظار مجيء الإدارة الأميركية الجديدة التي لا يعرف اليوم هويتها بالنظر للتقارب في الأصوات بين المرشح الجمهوري والمرشحة الديمقراطية. ولذا، بين الاستعجال الأميركي لتحقيق إنجاز ما وتباطؤ موسكو لترك كل السيناريوهات متاحة وكسب الوقت، تبدو سوريا ذاهبة إلى مزيد من القتال والدمار.
المصدر: الشرق الأوسط
↧