القاهرة ـ «القدس العربي»:
لا يغنيك المقام لوحده وأنت تسعى لحياة روحية بعيدة عن نكد العيش وخسارات الأيام المتتالية، فالأدعية بمسجد السيدة زينب وسط القاهرة تتحول تدريجياً لغناء صوفي يطير بك فوق القبة المزخرفة بفسيفاء العصر المملوكي، والثريات التي تهبط عليك من السقف وكأنها نيازك تقذف من قلب سماء مظلمة.
هكذا تشعر وأنت تدخل إلى مسجد السيدة زينب في محاولة منك لفهم هذا المسجد وطبيعة الناس التي تتوافد عليه يومياً بالآلاف التي من الصعب إحصاؤها. فتدخل المسجد لتجول في بالك الآية الكريمة (اخلع نعليك&8230;.) حتى تخلع معهما كل ما يمكن أن يربطك بالعالم الخارجي، فتشم رائحة مكان مرّت عليه مئات السنين وما زال يحتفظ بعرق كفين رفعا أحجاره واحدة واحدة، فتمسك بيديك باباً عمره بعمر هذا المكان، لم تعبث به الجماعات البشرية التي توالت عليه، ولم تدهنه بألوان بعيدة عن لونه الذي ولد فيه، لتشاهد بعد هذا الباب المئات من الفقراء والمساكين والعجائز وهم يفترشون باحة كبيرة تسع لآلاف الأشخاص، وهم ممددون هرباً من حرِّ الشمس خارج هذا الحرم، والفقر الذي أنهك قواهم، في انتظار من يقوم بإطعامهم أو مساعدتهم بما تجود به يداه حتى لو كان جنيهاً واحداً لا يكفي لنصف سندويش فول حاف، بحسب قول المصريين أنفسهم.
يسمي المصريون السيدة زينب بأم العواجز والمساكين، وهو ما تراه فعلاً، فمسجدها يحتضنهم كما تحتضن الأم أولادها. وفي كلامها عن هذا المسجد، تقول مروى حنّا أن السيدة زينب أقرب نسل النبي (ص) لقلوب المصريين على اختلاف ثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، فهي التي يطيب لأهل مصر تسميتها بـ«أم المصريين». ولها مكانة لا تضاهى في قلوب المصريين، فهي تتربع على عرش الأولياء. وهناك اعتقاد سائد هو أن السيدة زينب جاءت إلى مصر واستقرت فيها، وتوفيت في هذا المكان الذي شيد فيه جامعها، ولذلك يؤمن المصريون أنها دفنت في مصر حيث مرقدها الشريف لاشتماله على جسدها الطاهر، على الرغم من وجود ضريح لها يحمل الاسم نفسه في دمشق، حيث يسود اعتقاد آخر بأنها دفنت هناك. يقع هذا المسجد والضريح في حي السيدة زينب بالقاهرة، حيث أخذ الحي اسمه من صاحبة المقام الموجود داخل المسجد، وهو يتوسط الحي ويعرف الميدان المقابل للمسجد أيضا بميدان السيدة زينب. ويعدّ الحي الذي يقع فيه المسجد من أشهر الأحياء الشعبية في القاهرة إذ يكتظ بالمقاهي ومطاعم الأكلات الشعبية واعتاد أهل القاهرة خصوصاً في رمضان الذهاب إلى مقاهي هذا الحي وتناول وجبات السحور هناك.
ومن أشهر معالم هذا الحي إلى جوار مسجد السيدة زينب أيضا شارع زين العابدين وهو شارع موازي للمسجد ويعد من أكبر الشوارع التجارية في القاهرة.
غير أن التاريخ للشروع في بناء هذا المسجد بهيئته الحالية غير معروف تماماً، فلم تذكر المراجع التاريخية سوى أن والي مصر العثماني علي باشا قام سنة 951هـ/ 1547م بتجديد المسجد ثم أعاد تجديده مرة أخرى الأمير عبد الرحمن كتخدا عام 1171هـ/ 1768م، وفى عام 1940م قامت وزارة الأوقاف بهدم المسجد القديم تماماً وأقامت المسجد الموجود حالياً، وبالتالي فالمسجد ليس مسجلاً كأثر إسلامي. وكان وقتها يتكون من سبعة أروقة موازية لجدار القبلة يتوسطها صحن مربع مغطى بقبة، وفى الجهة المقابلة لجدار القبلة يوجد ضريح السيدة زينب محاطاً بسياج من النحاس الأصفر ويعلوه قبة شامخة. وفى عام 1969 قامت وزارة الأوقاف بمضاعفة مساحة المسجد.
تشرف وجهة المسجد الرئيسية الآن على الميدان المسمى باسمها، وترتد الوجهة عند طرفها الغربي، وفى هذا الارتداد باب آخر مخصص للسيدات يؤدي إلى الضريح وتقوم المئذنة على يسار هذا الباب، ويحيط بالركن الغربي البحري سور من الحديد وله قبتان صغيرتان ملتصقتان محمولتان على ستة أعمدة رخامية بواسطة سبعة عقود أقيمتا على قبري العتريس والعيدروس، وتقع الوجهة الغربية على شارع السد وبها مدخل على يساره من أعلى ساعة كبيرة، وللمسجد وجهتان أخريان إحداهما على شارع العتريس والأخرى على شارع باب الميضة، وأنشئت وجهات المسجد ومنارته وقبة الضريح على الطراز المملوكي وهى حافلة بالزخارف العربية والمقرنصات والكتابات.
والمسجد من الداخل مسقوف جميعه، حمل سقفه المنقوش بزخارف عربية على عقود مرتكزة على أعمدة من الرخام الأبيض ويعلو الجزء الواقع أمام المحراب شخشيخة كما يعلو الجزء الأوسط من المسجد قبل التوسيع شخشيخة بها شبابيك زجاجية في وسطها قبة صغيرة فتحت في دائرها شبابيك من الجص المفرغ المحلى بالزجاج الملون. ويقع الضريح بالجهة الغربية من المسجد وفيه قبر السيدة زينب تحيط به مقصورة من النحاس تعلوها قبة صغيرة من الخشب.
كما تعلو الضريح قبة مرتفعة ترتكز في منطقة الانتقال من المربع إلى الاستدارة على أربعة أركان من المقرنص المتعدد الحطات وتحيط برقبتها شبابيك جصية مفرغة محلاه بالزجاج الملون، وقد عملت التوسعة من الداخل على نظام باقي المسجد وهى تشتمل على صفين من العقود المحمولة على أعمدة رخامية تحمل سقفاً من الخشب المنقوش بزخارف عربية وفي وسطه شخشيخة مرتفعة عنه بها شبابيك للإضاءة. وقد بنيت وجهات هذه التوسعة بالحجر على طراز وجهات المسجد الأخرى.
يتكون مسجد السيدة زينب من سبعة أروقة يتوسطها صحن مربع مغطى بقبة، ويوجد أمام القبة ضريح السيدة زينب، ويوجد محراب جديد يتوسط المسجد، بالإضافة إلى المحراب القديم، وأمام المسجد رحبة مغطاة مساحتها مماثلة لمساحة الصحن، وفي الطريق الشمالي الغربي يوجد ضريح السيد العتريسي. المسجد هذا، بتفاصيله، يعدّ مركزاً للإشعاع الروحي الأبرز لكثير من سكان القاهرة ومريدي «الطاهرة» من المحافظات المصرية الأخرى، وعدد من البلدان العربية التي تنتشر فيها الطرق الصوفية، إذ يلجأ إليه المصريون من كل مكان بحثاً عن علاج لأمراضهم الجسدية والنفسية، أو رغبة في تحقيق رجاء أو أمل، وذلك ببركة السيدة الجليلة، والتي ترقد في هذا المكان الطاهر، حسب مروى حنّا.
مضيفةً أنه إذا كانت السيدة زينب هي ولية النساء، فإنها ليست أقل أهمية عند الرجال، فسلوك الرجال في أثناء إقامة الطقوس عند زيارة الضريح لا يختلف كثيراً عن سلوك النساء، إذ يطلقون العنان لمشاعرهم خصوصا في أثناء المولد، فالسيدات يحضرن التماساً للمعجزات والكرامات لحل المشكلات التي تصعب عليهن، أو للوفاء بالنذور التي قطعنها على أنفسهن، فمنهن من يحضرن بحثاً عن شفاء من مرض ألمَّ بهن أو يأخذ ذويهن، فالجامع والضريح يجذبان المريدين على مدار العام، فيأتون من مشارق مصر ومغاربها للتبرك والاستغاثة، فللسيدة زينب وجود متأصل في نفوس المصريين.
من جانب آخر، يعدّ مولد السيدة زينب من أكثر المناسبات الدينية والاجتماعية حضوراً لدى المصريين، ففي الربع الأخير من شهر رجب كل عام يتوافد نحو مليون مصري من مختلف محافظات مصر، بخلاف سكان العاصمة المصرية القاهرة والمدن المجاورة لها، للاحتفال بمولد «أم العواجز» وسط أجواء كرنفالية مميزة لهذا الاحتفال السنوي الذي يُقام كل عام في مصر منذ مئات السنين، بل إن نابليون بونابرت عندما جاء إلى مصر على رأس الحملة الفرنسية حاول التقرب من المصريين بأن شاركهم في الاحتفال بالمولد، وذهب بنفسه لمكان جامع السيدة زينب لمشاركة رجال الطرق الصوفية في الاحتفال بالمولد، وانخرط في حلقات الذكر الصوفية داخل الجامع، بعد أن أشاع وسط عامة المصريين بأنه أسلم، وسمح لمن يشاء من قواده وجنوده باعتناق الإسلام، بل وأرسل تكاليف الاحتفال بالمولد للشيخ البكري نقيب الأشراف في مصر خلال هذه الفترة، وهي حيلة لم ينجح في خداع المصريين بها.
وينتهز محبو السيدة زينب الذين يفدون خصيصا في هذا المناسبة، المولد للتعبير عن حبهم للسيدة زينب، حيث يحضر محبو ومريدو «عقيلة بني هاشم» إلى الضريح قبل بداية الاحتفال بفترة قد تصل إلى أسبوع، حيث تُقام السرادقات ويفترش الناس الطرقات بإقامة مخيمات فيها.
وفي المولد تُقام حلقات الذكر داخل وحول المسجد، وتُقام الاحتفالات والعروض ووسائل التسلية في الشوارع الجانبية والساحات، وفي شارع «السد»، وهو الشارع الذي اشتهر بعد أن قدمت السينما المصرية فيلماً شهيراً باسمه.
ويعدّ مولد السيدة زينب من فترات السياحة الداخلية التي تنتظرها المنطقة المحيطة بالمقام والفنادق الشعبية الرخيصة في المنطقة، فكثير من الباعة الجائلين في مصر ببضاعتهم البسيطة والسلع التقليدية التي ينشط الطلب عليها في الموالد والمواسم والأعياد، مثل ألعاب الأطفال الشعبية البسيطة، والهدايا التذكارية كالسبح والمصليات وعبوات الحلوى.
أما عن الكرامات التي تحكى حول هذا المسجد وصاحبته، فقد انتشرت الحكايات الشعبية التي تدور حوله، وربما لخصهتها الرواية الشهيرة «قنديل أم هاشم» والفيلم الذي مثل عنها، وبدءاً يعتقد المصريون بزيت القناديل التي يضاء المسجد بها، موقنين أن هذا الزيت يشفي العيون، فيقوم الناس بوضعه في العين التي تعاني من المرض أو الرمد أو العمى، فتشفى دون الحاجة لأي علاج آخر.. أما الشخصية نفسها (السيدة زينب) فقد حيكت حولها حكايات شعبية كثيرة، حتى سموها بـ«صاحبة الديوان» معتقدين بفكرة أنها تجتمع كل سنة مع الرسول (ص) والإمام الحسين والإمام الشافعى من أجل محاكمة كل ما يحصل فى الحياة من أجل نصرة الناس المظلومة ويأتوا بحقهم، لهذا تسمى هذه المحاكمة بـ«المحكمة الباطنية».
فضلاً عن قصة مشهورة تقول إنه في وقت الاحتلال الإنكليزى لمصر نزلت دانة من طائرة على المقام فتعلقت فوق المئذنة ولم تنفجر، ما جاء الناس تكبر وتهلهل حتى تمكن الجيش من إنزالها ولا أحد يستطيع حتى الآن تفسير لماذا لم تنفجر تلك الدانة الانكليزية.
تحرير وتصوير صفاء ذياب
المصدر: العربي الجديد