إن أغتيال المثقف الأردني اليساري، ناهض حتر، يفترض أن يدفعنا إلى قليل من تأمل هذه الحالة الخطيرة التي أصبح فيها المثقف المختلف مستهدفا. ليس المهم فيها أن نختلف مع الرجل في أطروحاته عن الطائفية، والقبلية، ومشكلة الأديان، والمأساة السورية، وفلسطين وفكرة الوطن البديل، والتيارات السياسية السنية والشيعية، وموقفه الصارم من «دعشنة» المجتمعات العربية التي يتم تنفيذها بسرعة خطيرة.
آراء ناهض حتر يمكن أن توضع على المحك وتناقَش بالفكر والحجة والعمل الثقافي الجاد والعقلاني، وهناك الكثير ما يُقال فيها، وليس بكاتم الصوت أو السكين. ليس المهم أيضا التقديس الذي يعقب عادة فعل الاغتيال، أو الشتم الذي كثيرا ما ينتهجه سدنة اليقين والإطلاقية والموت وهم يتشفون، ويشفون غليلهم في رجل قتل أمام الجميع، وأمام باب مؤسسة يفترض أنها تمثل العدالة، والحياد، وتمنح الإنسان فرصة الدفاع عن نفسه بالوسائل التي يكفلها لها القانون.
عملية الاغتيال في النهاية هي جريمة قتل عن سبق إصرار وترصّد، وصاحبها يعاقَب عليها وفق إملاءات القانون وحده، ومن أفتى له لأنه ليس أقلّ إجراما منه. الخطير في عملية اغتيال المثقفين أو تهديدهم وتكميم أفواههم، التي عادت بأشكالها البالية والإجرامية نفسها، أكثر من هذا كله وأشد خطورة. ليست الجريمة وحدها ما يهم هنا، لكن ابتذالها، بحيث تصبح لا حدث، ويقبل به الناس بسهولة. لنا في تجربتي العراق وسوريا، حيث أصبح القتلى مجرد أرقام. علمتنا التجارب الإنسانية أن قيمة الإنسان تتحدد بمدى المحافظة على حياته، مهما كانت المبررات والمسببات. إلغاء عقوبة الإعدام من قوانين الكثير من البلدان الأوروبية تحديدا، لم يكن أمرا اعتباطيا، لكنه يدخل في سياق أن الإنسان قيمة متعالية لا يمكن العبث بها. وانتصرت الفكرة التي دافع عنها كبار الكتاب والمثقفين من أمثال فكتور هيغو وغيره.
الروح مقدّسة، ولا يمكن إزهاقها بلا ضوابط شديدة الصرامة وإلا سيتحول المجتمع الإنساني إلى أدغال، يفترس فيها المسلح، المجرد من أية وسيلة دفاع.، باسم الدين المؤوّل وفق حاجات سياسية عاجلة. ما زالت أعتقد أن القرآن الكريم في هذا، كان دقيقا وواضحا، إذ ربط قدسية الروح بالحق والمس بالناس جميعا. وهو ما يعليها ويحميها من الذين جعلوا من قتل من يخالفهم وسيلتهم الأساسية.
للأسف، الفقه الإسلامي بقي في دائرة التقليد البالي والمتكرر بلا معنى، لم يطور هذا التصور الإنساني باتجاه ما هو شمولي وعميق. وظل هذا الفقه الخالي من أية معرفة جديدة متجاوبة مع العصر وحاجاته، عالقا بالحيثيات الشكلية للدين، التي لا تقدم شيئا حقيقيا، لكنها بكل تأكيد، تؤخر وتعطل. تحتاج اليوم المؤسسة الدينية الإسلامية في العالم العربي تحديدا، إلى أن تستفيد من مثيلاتها في آسيا على الأقل، وتنفض الغبار عن نفسها كما جرى مع الكنيسة التي احتاجت لكي تستمر، إلى جهود كبيرة داخلية، وإلى شخصيات فاعلة في الحياة، على الرغم من الصعوبات التي واجهتها. المؤسسة الدينية اليوم تابعة لإرادة السلطان في كل تفاصيلها.
حتى الأزهر الشريف المعول عليه ليكون مؤسسة حقيقية وواجهة التجديد الديني، ظل عاجزا عن تخطي سلطة الحاكم وأطروحاته عبر التاريخ. بقي الأزهر، منذ عشرات السنين، في الحدود التي تُرسم له في كل مرة. وهي حدود سياسية في الأصل وليست دينية. وفاقد الشيء لا يعطيه. فقد رُبي الأزهر على الوقوف مع الأقوى. ولو افترضنا وصول تنظيم «الدولة» (داعش) إلى السلطة، فلن يكون الأزهر إلاّ امتداده الطبيعي. الكنيسة التي ظلت تعادي الحاضر، سرعان ما تصالحت معه، حينما قبلت بدخول تيارات هوائية جديدة هزت يقينها المتكلس.
لم تنفع محاولات التيار التقليدي المحافظ، اليائسة لتثبيتها، وخرجت من عقاله، حتى أن كثيرين من البابوات الذين فقدوا حياتهم بسكتتات قلبية مفاجئة ومتتالية، ومنهم المجدد البولوني جون بول١ لم تمر بلا تساؤلات. هذه الجريمة الخطيرة ضد مثقف معروف بمواقفه غير المهادنة التي تستحق أن توضع على المحك والمساءلة النقاشية، تدفعنا إلى طرح الأسئلة الأساسية على أنفسنا. هل ناقشنا الرجل بما يكفي في أفكاره باستثاء الشتيمة والاقصائية؟ وعندما سجن بسبب آرائه، هل تحرك المثقفون، ليس الأردنيون فقط، ولكن العرب أيضا للدفاع عن حقه في التعبير وفي قول رأيه؟ الرجل منع من النشر، فلم يجد أمامه إلاّ وسائل التواصل الاجتماعي التي رمت به ككبش الأضحية، داخل مجتمعات أصابها التخلف المدقع والدوران في دوامة الفراغ، ومؤسسات متكلسة.
لم يضبط مع ناهض، باستثناء حاسوبه الصغير وقلمه، لا كلاش، ولا كاتم صوت، ولا سكين بحدين. يبدو لي أن الصمت، وفكرة إن هذا لا يحدث إلا للآخرين، وراء الجريمة أيضا.
القتل لم يكن إلا محصلة طبيعية نهائية لسيرورة بدأت بالمنع، ثم السجن، ثم الوقوف أمام القضاء الذي سبقته فتوى القاضي الموازي، قاتل الظلّ، قبل اليد المنفذة. أي تراجع هذا الذي لا ندركه ولا نلمسه ونحترق به يوميا. ماذا لو وجد هؤلاء القتلة في عصر ابن رشد، والمعرّي، وطه حسين وعلي عبد الرازق وغيرهم؟ يمكننا أن نفترض أشياء كثيرة، لكن الشيء الوحيد المؤكد هو اغتيال هؤلاء بلا رحمة وإشاعة الظلام.
المصدر: القدس العربي