جدل الدين والسياسة بين الأمس واليوم
09.08.2016
د. محمد أحمد الزعبي
في عام 1948 ، وفي شهر رمضان من ذلك العام ، كنت أجلس مع والدي رحمه الله ، والشيخ حسين الطه إمام مسجد القرية ( المسيفرة ) ومرجعها الديني الأكبر والوحيد ،رحمه الله أيضاً ، على حجر طويل ( ربذة ) في مدخل دارنا ، ننتظر " مدفع الإفطار " وكان ذلك قبيل غروب الشمس بحوالي الساعة . وبما أنني كنت في أول أيام انتمائي إلى "حزب البعث العربي " ، فقد دخلت وأنا الصغير ( 14 سنة ) والبعثي المتحمس للقومية العربية في بعدها العلماني ، مع الشيخ حسين وبحضور والدي ، بجدل نظري حول العلاقة بين الدين والسياسة ، حيث كنت ، كبعثي علماني أقف موقفا سلبيا من الدين ولاسيما من تعارض هذا الدين مع الفكر القومي العربي الذي كان ميشيل عفلق المؤسس لحزب البعث والمسيحي أحد أعمدته ، وكان الشيخ حسين " كرجل دين إسلامي " يقف موقفا سلبيا من حزب البعث العربي لكون رئيسه " مسيحي" (وهو ما كان يراه سبباً كافياً للرفض)وهنا سألني الشيخ حسين ، وهو يعرف أنني صائم مثله : ما دامت هذه نظرتك كبعثي إلى الدين ، فلماذا أنت صائم إذن ؟! . وبما أن سؤاله قد بدالي صحيحا ومنطقيا ومحرجاً ، فقد دخلت إلى البيت وأحضرت " كسرة خبز " وعدت بها الى حيث يجلس الشيخ ووالدي ، وشرعت ألتهمها أمامهما كجواب على سؤال الشيخ لي ، على قاعدة ( الجواب ما تراه لاماتسمعه ) . لقد كان جواب الشيخ حسين الطه يومها على سلوكي الصبياني هذا " الله يهديك " ، أما والدي فقد ظل صامتا كما لو أن الأمر لا يعنيه .
ما أرغب أن أقوله اليوم ، وبعد مرور سبعة عقود على هذه الواقعة المحفورة في ذاكرتي هو :
1. لقد كان رد ذلك الشيخ على " صبيا نيتي اليسارية " وسكوت والدي كما لو أن الموضوع لا يعنيه ، يمثل الموقف الإسلامي الحقيقي لكل من الشيخ و والدي . بل وللعلاقة الجدلية الصحيحة بين الدين والسياسة في ذلك الزمن ، والمتجسدة بحرية كل من الرأي والمعتقد ، أو قل إذا شئت حرية كل من الرأي والرأي الآخر . .
2. لقد كان سبب سكوت والدي على سلوك ولده ( سلوكي ) الصبياني المخجل يومها ، هو - حسب تقديري اليوم - اعتزازه الضمني بأن ولده أصبح شخصاً متعلماً ( صف سابع ) قادرا على مناقشة " الشيخ حسين " ومحاججته وهو الفقيه والمرجع الديني الكبير والوحيد في القرية .
3. إن العلاقة بين الدين والسياسة قبل سبعين عاما كانت أكثر ديموقراطية وأكثر أخلاقية مماهي عليه اليوم ، حيث يقوم دواعش آخر زمان أو مايعادلهم من الحوثيين والحالشيين واتباع ولي الفقيه ، بقتل كل من يخالف مايرونه هم (!!) يمثل " شرع الله " .
4. لقد جاءت ثورات الربيع العربي عام 2011 لتعيد اللحمة الى العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام التي حاول السيدان سايكس وبيكو قطعها بعد الحرب العالمية الأولى ، ولكن أعداء الديموقراطية من أحفاد سايس وبيكو وبعد أن انضمت إليهم أمريكا وإسرائيل وبعض العملاء العرب كانوا لهذا الربيع العربي بالمرصاد. بيد أن أحفاد أبطال ثورة 1925 ، وأبطال ثورة 2011 كانوا لمرصادهم بالمرصاد ، وهاهم يخوضون اليوم معركة تحرير حلب الشهباء الكبرى من براثن عائلة الأسد ومن يدور في فلكها من الطائفيين والعملاء والمستعمرين الجدد من أعداء العروبة والإسلام .
5. لو كان الشيخ حسين ما يزال حيّاً ، ربما لكنت وإياه اليوم في خندق وطني واحد ضد أعداء العروبة والإسلام ، سواء من دعاة التتريك بالأمس ، أو من دعاة التغريب هذه الأيام ، فالعروبة والإسلام هما وجهان لعملة واحدة ، هي مبدأ " المواطنة " التي لحمتها الديموقراطية ، وسداها العدالة الاجتماعية وقوامها مكارم الأخلاق .
↧