من يسمع الجوقة الإيرانية في بغداد يعتقد أن "فتح إسطنبول" والانتقام للشاه إسماعيل مؤسس الدولة الشيعية في فارس، أو حتى الانتقام للإمام الحسين، بات قاب قوسين أو أدنى. للعثمانيين اصطلاح يعجز المترجمون عن إيجاد مقابل دقيق له، والمعنى الحرفي له: "التفاحة الحمراء". اختلف الباحثون حول المقصود بـ"التفاحة الحمراء"، فمنهم من اعتبرها روما، وهناك من قال فيينا، وبعضهم اعتبرها البندقية، وهناك من قال إنها الجنّة. وقد ظهر هذا الاصطلاح بعد فتح إسطنبول "روما الشرقية"، لذا لم تسمى المدينة بـ"التفاحة الحمراء". ولكن من يسمع الساعين لتأسيس "دولة العدل الإسلامية"، "داعشية" كانت أم "إمامية شيعية"، يُدرك أن هدفهم هو "التفاحة الحمراء" أي إسطنبول القسطنطينية، ويمكن أن تكون الموصل، وحلب، وصولاً إلى مكة. طموح القسطنطينية "الداعشي" العقائدي أو "الإمامي" الشيعي، الثأري، هو أداة مؤثرة جداً في الجعجعة، ولكن السياسيين العقلانيين يعرفون أن الجعجعة شيء والطحين شيء آخر. الأميركيون الذين يقودون المليشيات الإيرانية يتحدثون كما لو أنهم الناطقون باسم "الولي الفقيه". حتى إن الناطق باسم الخارجية الأميركية قال: "تركيا ليست ضمن تحالف تحرير الموصل"، وهي بحاجة الى موافقة بغداد لكي تكون ضمن هذا التحالف، ما أوحى بأن الموقف الأميركي يزداد تشدداً في مواجهة تركيا. ثمة حلقة مفقودة في مسلسل التصريحات النارية المتبادلة بين بغداد وأنقرة: إيران. مشهد غريب حقاً، كل مريدي "الإمام الفقيه" وصولاً إلى دراويش التكية الشيوعية يجعجعون، بينما الرياح القادمة من قمّ لا تحمل أي صوت حول هذه القضية، فالصمت المطبق هو الحاكم على تلك الجهة. صباح الثلاثاء كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يخطب بالأكاديميين الأتراك، بمناسبة بدء العام الأكاديمي في المجمع الرئاسي. وفي الوقت ذاته كان رئيس حزب "الحركة القومية" دولت بهتشلي، يخطب في مجموعته البرلمانية في المجلس النيابي. اللافت أن الاثنين تحدثا بشكل واضح ودقيق وصريح، وانسجام يكاد يكون متطابقاً، بأن مشاركة تركيا في معركة الموصل هي من الأمن القومي التركي، ولا يمكن التخلي عنه. دولت بهتشلي، زاد على ذلك، وأضاف إلى الموصل حلب. بينما أضاف أردوغان بأن الولايات المتحدة وروسيا طلبتا منه المشاركة في التحالف ضد "داعش". بعد هذين الخطابين بقليل، تحدث رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم لمجموعته البرلمانية، وقال مكذباً الناطق باسم الخارجية الأميركية حول عدم وجود تركيا في "التحالف الدولي"، وحاجتها لإذن بغداد، بالقول إن الطائرات التركية شاركت في قصف مواقع "داعش" في الموصل. وبعد ذلك أعلن وزير الدفاع التركي فكرت إشق، من روما، بعد اجتماع لوزراء دفاع جنوب غربي أوروبا أن وزارته توصلت إلى اتفاق مع "التحالف الدولي" للمشاركة في معركة الموصل. ومع ذلك، فالصراخ مازال مسموعاً من بغداد حول دحر تركيا، والحصول على "التفاحة الحمراء". إذا كان الصمت الإيراني مريباً، فإن الإصرار التركي على حقه بالدخول في معركة الموصل يُثير ريبة أشد، فما هي الورقة التي لدى أنقرة وتجعلها تفرض تدخلها؟ فأعداد القوات التي دربها الأتراك في إطار ما يسمى "الحشد الوطني" صغيرة، وليست مؤثرة كفاية. لعل إيقاف قوات البشمركة الكردية التابعة للبرزاني قافلة للجيش العراقي متجهة إلى بعشيقة، حيث الجنود الأتراك، يعطي مؤشراً على تحالف مصلحي بين الطرفين. فإقليم كردستان العراق لاعب رئيس ليس في إقليمه فحسب، بل في بغداد أيضاً، وليس من مصلحته تهجير سكان الموصل إلى كردستان وإحداث خلل ديموغرافي هناك. ولعل البرزاني يلتقي مع أنقرة بهذه النقطة، فالأتراك أيضاً يعلنونها صراحة بأنهم يخشون صراعاً مذهبياً وتغييراً ديموغرافياً ليس في مدينة الموصل فقط، بل في محيطها كله، خاصة في القرى التركمانية هناك. وحشدوا عشرات الآلاف من جنودهم على الحدود العراقية التركية مقابل الموصل. وبالفعل اعترف الرئيس الأميركي في اليوم ذاته، بصعوبة معركة الموصل، وبأنه لا مفر من أن تؤدي المعركة إلى نزوح عدد كبير من سكان المدينة. مساء الاثنين، أعلنت باريس عن مؤتمر دولي سيعقد الخميس، لبحث قضية مدينة الموصل، وإدارتها بعد تحريرها من "داعش"، وأن 15 دولة مدعوة إلى هذا الاجتماع، ولم تكن تركيا مدرجة بينها، على الرغم من تكرار تصريحها: "سنكون في ساحة المعركة، وعلى الطاولة". صباح الأربعاء، وُجّهَت دعوة رسمية لتركيا لحضور هذا المؤتمر، كما أضيفت بشكل مفاجئ دول الخليج العربي، وارتفع عدد الدول المشاركة إلى 20 ليس من بينها إيران. ولابد هنا من التذكير باتفاقية التعاون الاستراتيجي الموقعة مؤخراً في اجتماع وزراء دول خارجية "مجلس التعاون الخليجي" مع تركيا، وتقارب الرؤى بين الطرفين حول قضايا المنطقة، خاصة سوريا والعراق. بالطبع عدم مشاركة إيران في الاجتماع لا يعني غيابها، فوزير الخارجية العراقي الذي سيجلس على رأس الطاولة إلى جانب الوزير الفرنسي، سيكون مندوباً عن خارجية إيران. بالإضافة إلى أن الجيش العراقي بحد ذاته، هو جزء لا يتجزأ من الجيش الإيراني. وبعد هذا الإعلان بساعة فقط أعلن عن زيارة وفد من الخارجية العراقية إلى أنقرة رغبة بحل الأمور العالقة بين البلدين بالطرق الديبلوماسية. ومن المتوقع أن يغادر الوزيران العراقي والتركي إلى باريس من تركيا لحضور مؤتمر الموصل الدولي. وقبل انتهاء اليوم، جرى اتصال هاتفي بين أردوغان وبوتين، وبحسب البيان الرئاسي التركي، فإن الحرب على "داعش"، وتأسيس وقف لإطلاق النار في حلب، هي المواضيع التي ناقشها الرئيسان. يبدو أن تركيا قد غيرت طريقة تعاملها مع الولايات المتحدة الأميركية، بعد ما رأته منها على مدى أكثر من خمس سنوات في القضية السورية. يمكن القول إن أنقرة تمارس نوعاً من فرض أمر واقع على الولايات المتحدة مستغلة الحالة الانتقالية هناك بين عهدين، والتحضير للانتخابات. ومثلما تمكنت من فرض أمر واقع شمالي حلب لم يستطع حتى حلفاء النظام السوري الرئيسيين انتقاده، بل بات من الواضح أنهم يخافونه، فهي تسعى لفرض أمر واقع في أماكن أخرى يمكن أن تكون منها الموصل. وتركيا لا تخفي أن قواتها المحتشدة على الحدود مع العراق لديها خطط متعددة، ومن بينها "درع دجلة" وهذا بالطبع ما يذكر بعملية "درع الفرات". غُيبت تركيا عن الساحة الإقليمية بقرار أميركي ورغبة إيرانية وروسية، ولا يمكن القول إنها تستطيع العودة بإمكانياتها الذاتية، فحتى فرض الأمر الواقع الذي تسعى إليه يحتاج إلى قبول أميركي، أو غض طرف على الأقل. ويبدو أن إدارة أوباما لا تريد ترسيخ انطباع التردد عنها قبل مغادرتها البيت الأبيض، وهذا ما تستغله أنقرة جيداً.
المصدر: المدن - عبد القادر عبد اللي
↧