تدبّ الحياة مجددًا في أوصال المدينة المتعبة ويخرج الأهالي من بيوتهم وكأنهم يرون مدينتهم بعد غياب طويل، فالخروج من البيت مؤخرًا كان مجازفة كبيرة في مدينة يتربص الموت بسكانها من كل جانب.
لأول مرة منذ أشهر تخلو سماء مدينة حلب من طائرات الموت وهديرها المرعب، بعد إعلان روسيا والنظام، الثلاثاء، تعليق طلعاتهما الجوية على المدينة المحاصرة.
يسارع أهالي حلب لاستغلال هذه التهدئة المؤقتة قدر الإمكان لاستعادة بعض مظاهر الحياة التي فقدوها لأشهر طويلة؛ فالأطفال خرجوا للعب في ساحات المدينة التي تغصّ بأنقاض المباني المدمرة والحفر التي خلّفها القصف، في حين يسعى الكبار لتأمين احتياجاتهم مما توفره الأسواق الفقيرة من البضائع بسبب الحصار.
يضع أبو علي، أحد سكان حلب القديمة، بعض الأخشاب التي جمعها وقودا يستخدمه للطهي على دراجته الهوائية، ويتحدث بسخرية عن هذه التهدئة: «من أين جاءتهم الإنسانية؟ بالأمس كانوا يقصفوننا بأفتك الأسلحة واليوم يدّعون حمايتنا؟». ويتابع قائلا: «تعليق عمليات القصف ليس نهاية لجرائمهم، ولكنه خيار مؤقت يضعنا فيه النظام وروسيا لنختار بين الاستسلام والفناء، أما هذه التهدئة فليست أكثر من فسحة بين الموت والموت».
تتلخص مبادرة روسيا في حلب بإيقاف عمليات القصف لمدة ثلاثة أيام وفتح ممرات «آمنة» لخروج المدنيين وفصائل المعارضة منها، حيث بدأ تعليق أعمال القصف الجوي، أول من أمس، في حين حُدد اليوم الخميس، موعدًا لخروج المدنيين والفصائل العسكرية من سبعة معابر، حسب منشورات ألقتها طائرات النظام على الأحياء الشرقية في مدينة حلب، تشرح مواقع وتعليمات العبور، مع إمكانية تمديد التهدئة ليومين إضافيين في حال لاقت المعابر إقبالاً من أهالي الأحياء المحاصرة، بينما شدّدت تصريحات وزارة الخارجية الروسية على أن المعابر مفتوحة باتجاه واحد للخروج فقط، وليس لإدخال أي مساعدات إلى المدينة.
ومع غياب طرف ثالث دولي يشرف على عمليات عبور المدنيين ويضمن سلامتهم، يعرب كثير من أهالي حلب عن خيبة أملهم بهذه المبادرة وتعذّر خروجهم من المدينة، تتحدث أم إبراهيم لـ«لشرق الأوسط»، وهي منهمكة في صنع بعض الخبز اليدوي عن أسباب بقائها في حلب، بقولها: «لقد استنفد الحصار والقصف جميع ما لدينا. تصدّع منزلي من القصف وفقد زوجي مصدر دخله بسبب الحصار وأصبحت الحياة مستحيلة هنا، لكننا لن نخرج دون ضمانة دولية، فنحن لا نثق بالنظام الذي دأب على قتلنا منذ خمس سنوات والآن تأتي روسيا بأسلحتها الحديثة لترغمنا على ترك بيوتنا».
ويرى أيوب الحزوري، أحد الناشطين في مدينة حلب، أن المبادرة الروسية ليست إلا إكمالاً لمسرحية التهجير التي يسعى النظام وروسيا وإيران لفرضها على المدينة، فسياسة النظام وحلفائه باتت واضحة في حصار المناطق الثائرة وإفراغها من أهلها تمهيدًا لتغيير ديموغرافي في النسيج الاجتماعي السوري على أسس طائفيّة، والأمثلة كثيرة، بالأمس كانت داريّا وقدسيا والهامة بريف دمشق، واليوم بلدة المعضميّة، وغدًا حلب.
يتابع أيوب الحزوري كلامه عن النشاط الإعلامي الذي يمارسه النظام عبر منصاته الرسمية وغير الرسمية، بالتزامن مع المبادرة الروسية، قائلا: «يسعى النظام إلى التأثير على الرأي العام ببث الشائعات عن تحضيرات أمنية كبيرة وفبركة مقاطع فيديو عن تأمين خروج بعض المدنيين، لإظهار جديته في تطبيق المبادرة، بالإضافة لتسريب تهديدات عبر بعض الصفحات التابعة لمخابراته بتحويل المدينة إلى ركام على رؤوس من سيبقى فيها، ولكن أساليبه باتت مكشوفة للجميع».
بين رافض لسياسة التهجير ومطالب بضمانات دولية للخروج، لا يبقى أمام أهالي حلب إلا استغلال فترة الهدوء الذي يعمّ سماء مدينتهم مؤقتًا، واسترجاع إيقاع الحياة من بحث عن مأكل ووقود ودواء. وبانتظار حل دولي أو معجزة تزيح عنهم خيار الموت أو التهجير، يجد أبو علي في التهدئة الروسيّة فرصة ليحظى بليلة هادئة دون أن توقظه أصوات القصف وهدير الطائرات.
المصدر: الشرق الأوسط
↧