عرض الصديق د. مازن أكثم سليمان في مقاله (نحو رؤية تكاملية مغايرة لمفهوم الثورة) و المنشور في جيرون تاريخ 2- ايلول -2016 مقاربة وجودية ظاهراتية ما بعد حداثية لمفهوم الثورة عموما و الثورة السورية خصوصا, و قد عرض لعدد من القضايا المفاهيم منها: القطيعة الأبستمولوجيا و الوجودية و الثورية – انفتاح الدلالة- أصالة الوجود – فشل تفسير الثورة في نطاق ثنائية السلطة/ المعارضة- الثنائيات التقابلية الميتافيزيقية التي نظرت إلى الثورة المسلحة بوصفها نقيضًا للثورة السلمية- الطبيعة الما بعد حداثية لثورات الربيع العربي- محمية (نظرية المؤامرة) المريحة للأعصاب والضمير- سؤال الوطنية و الأنظمة العربية- مكر التاريخ بوصفه حتميّة- انفتاح فجوة وجودية تخارجيّة ، لم يعد بالإمكان إغلاقها والعودة إلى الاستعصاء التاريخي القديم. و سأعرض لعدد من النقاط التي أثارها المقال المذكور ليس من وجهة نظر النقيض أو التأييد بالضرورة و لكن من باب اغناء و تعميق البحث في قول على قول... و يمكن للقارئ أن يطلع على مقال د. مازن أكثم سليمان السابق الاشارة له ,أو يمكنه متابعة القراءة مباشرة , حيث أنّي سأستخدم طريقة عرض نقاط و محاور منفصلة.
أولا - لنميز ما بين نقد ايجابي حيوي للثورات و الثورة السورية ضمنا.. و النقد الايجابي مطلوب في نقد كل للظواهر و ليس فقط فيما يخص الثورة السورية ..هو نقد يستند الى وحدة معايير الحدوث البرهاني التجريبي و القيمي.. و بين نقد إيديولوجي يعتمد ذاكرة انتقائية مُنحازة , نقد يبحث عن نواقص الثورات و هي نواقص ليست قليلة بطبيعة الحال , و من ثمّ يسخّف الحالة السياسية الاجتماعية برمّتها ..دفاعا عن سلطة أو ذهنية سلطة مستبدة, أو عقيدة سياسية او دينية عصبويّة انغلاقيّه...كانت الثورة أو الثورات العربية ردّات فعل طبيعية على جمودها و استعصائها على الاصلاح و التغيير. ثانيا-لا وجود لجوهر ثابت للثورة أو لأيِّ كينونة أخرى , فالثورة شكل حركي يخضع لفعل الزمن و تأثيره في كلّ لحظة , , فالثورة السورية في مسار حركتها يتغير شكلها, فهي تؤثر و تتأثر ببعد الزمن و صيرورة التاريخ, فالسلمية أو الوطنية ليستْ بجواهر ثابتة لأي ثورة ..فهي تكون أكثر أو أقل عنفا و أكثر أو أقلّ وطنية ( الوطنية السورية كنقيض للهويات ما قبل الوطنية و ما بعد الوطنية أيضا) ربطا بالمتغيرات المُحايثة , و منها طريقة استجابة السلطة الحاكمة نفسها, بالإضافة الى المتغيرات و التدخلات الإقليمية , عداك عن عوامل تتعلق بوعي القوى الثورية نفسها و أهليتها و كفاءتها للعمل السياسي و الشأن الثوري. ثالثا- الثورة السورية بدأت ثورة عفوية شعبية تطرح شعارات بدهية عامة حول موضوعات الحرية و العدالة و الكرامة الانسانية , و تحرير الشعب السوري من تسلّط النظام الحاكم ممثّل بشخص الرئيس و عائلته و مخابراته, و لكنّها لم تقدّم خطابا سياسيا واضحا متماسكا .. و لم تطوّر قيادة سياسية تستثمر الزخم الشعبي و تسعى في بلورة مطالب سياسية في مواجهة السلطة الحاكمة أي أنها كانت ثورة مقطوعة الرأس ! و ذلك يعود لأسباب متعددة ذاتية و موضوعية ..تتعلق بالطبيعة الاستبدادية المتوحشة للسلطة السورية و تصحر الحياة السياسية السابق .. و تتعلق كذلك بطريقة مواجهة السلطة للتظاهرات عبر السعي المُبكر لعسكرتها , و كذلك لاختراقها من قبل قوى السلفية الجهادية داخليا و خارجيا ..و كذلك لأسباب تتعلق بفُوات المجتمعات العربية الاسلامية و تأخرها عن قيم دولة المواطنة من علمانية و ديمقراطية و حقوق انسان...و الفوات هنا يشمل المجتمع السوري و الفئات الموالية للسلطة الأسدية ضمنا. رابعا- مفهوم القطيعة المعرفة بحدّ ذاته وفهم الثورات اعتمادا عليه مناف للبرهان.. و هو فهم يقوم على أسطره الحدث الثوري ..و نمذجته في أمثلة تاريخية أصبحتْ مشهورة لم تسلم هي نفسها من فعل الأسطرة ,حيث غالبا ما يتم التقليل من شأن العنف و الوحشية و التصرفات اللاأخلاقية المرافقة للثورات و يتبقّى صورة بطولات و أبطال!
خامسا - لا يمكن لثورة ان تكون بديلا كلّيا عن سلطة قائمة طالما أنّ السلطة و البديل الثوري كلاهما قوى اجتماعية متصارعة متداخلة متناقضة متساومة في ذات الشرط الاجتماعي و التاريخي.
سادسا- ثنائية السلطة و المعارضة تتوافق جزئيا مع ثنائية السلطة و الثورة , فالسلطة هي نفسها في الحالتين و لكنّ المعارضة في حالة الثورة تكون أكثر جذرية و أقل مرونة في معارضتها للنظام و ربما أكثر عنفا في حالات الثورات ( غير السلمية)..و في كثير من الأحايين. وفي كثير من الحالات لا تبرز القوى الثورية كمعارضة للسلطة السياسية القائمة بل تكون ضد الطبقة السياسية الحاكمة و المعارضة معا.. أي أنها معارضة من خارج النظام و المنظومة السياسية الحاكمة. مع ملاحظة أنّ تعبير المعارضة السياسية سيبدو أقل وضوحا و أصعب تعينا في حالة الأنظمة السياسية الاستبدادية الشمولية المطلقة الحكم.. فهي أنظمة تحتكر الفضاء العام و تمنع ظهور معارضة سياسية حقيقية و فاعلة لها.
سابعا - يوجد سياق مخصوص بالمركزية الأوربية لمصطلحات من قبيل الحداثة و ما بعد الحداثة الى حدّ كبير , ينبغي الحذر في استخدامها خارج سياقاتها المدروسة و التي تعبّر عن مصالح سياسية رأسمالية امبريالية عقائدية شمولية.., فإذا كانت الاتجاهات ما بعد الحداثية تقدم نقدا لمفاهيم الهوية و الحقيقة و السلطة و المركزية من وجهة نظر نقدية تشكيكيه ثقافية وربّما عدمية في بعض نماذجها.. فإنّ الاتجاهات ما بعد الحداثية و الفلسفات و الرؤى التي تتحوّاها تصلح أكثر في نقد و تحسين مرود نماذج حداثية مستقرة سياسيا و ثقافيا.. و هي قليلة الصلاحية في سياق تأسيس وتجربة نماذج سياسية جديدة و تغير ثوري في المجتمعات , فالثورة لكي تنتصر هي بحاجة لهويّة وطنية مستقرة و متماسكة و تحتاج لنواة يقين و حقيقة يؤمن بها الثوار ..و هكذا نوع من اليقينيات و الحقائق هي بالضرورة نتاج تاريخي و انتقائي و أسطوري, و الثورة لكي تنتصر بحاجة لسلطة هرمية و قيادة مركزية صلبة بما يسهل اتخاذ القرار و حشد الامكانات و ادارة الصراع بشكل أفضل.
ثامنا- المؤامرة لا تصلح كنظرية لتفسير حوادث التاريخ و السياسة ..و غالبا مَن يتبنّى نظرية المؤامرة يُخفي عن نفسه قبل غيره الاسباب الحقيقية السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية للحدث و الواقعة, نظرية المؤامرة هي طريقة تبسيطية و غبيّة لتفسير الاحداث و فحواها أنا كشخص أو جماعة أو شعب , طيب و مختلف جوهرانيّا عن الآخرين, و لذلك فالآخرين اشرار و يستهدفونني فقط لكوني جيد و أفضل منهم أو لأنهم حاقدين عليّ/ علينا ! نظرية المؤامرة تُخفي تفكيرا يتمركز حول الانا و الذات , تفكير طفولي غير موضوعي. و في هذا السياق ينبغي التمييز بين المؤامرة كجزء من سياق الأحداث و هذا صحيح لا غبار عليه, و بين نظرية المؤامرة لتفسير الحدث التاريخي و السياسي. عادة ما يصف مثقفين ماركسيين أو قومين عرب أو طائفيين أو المثقفين من ملحقات السلطة الأسدية ما جرى في سوريا بكونه مؤامرة على سوريا و على النظام السوري المقاوم الممانع! و لكن يتحفّظون على اطلاق صفة المؤامرة عندما يتعلّق الأمر بالحالة المصرية مثلا و بقية ثوارات ما يُسمى بالربيع العربي بما يشمل الثورة البحرينية مثلا على الرغم من وجود سياق تاريخي و ثقافي و سياسي واحد يشملها جميعا. و هم يُخفون أن القوى المتصارعة في كل حالات ثورات الربيع/ الخريف العربي هي قوى محلية من نفس المجتمعات و بيئة هذه المجتمعات مع استثناءات التدخل الخارجي المتأخر في حالتي ليبيا و سوريا و الذي تم أساسا بناء على رغبة و طلب أحد أطراف الصراع الجاري! وهم يتناسون أن العبء و المسؤولية الأكبر في احتواء الصراعات الداخلية و تجنُّب انحدارها يقع على جهة السلطة الحاكمة, فكيف بسلطة هي نفسها كانت مطلقة الحكم و لمدة نصف قرن في سوريا قبل أن تقع هذه ( الثورة/ المؤامرة) و كيف بسلطة لم يمر يوم واحد دون ذكر كلمة التصدّي للمؤامرة في خطابها الرسمي و طيلة نصف قرن!!
تاسعا- يبدو السؤال/ التساؤل حول وطنية الأنظمة العربية الحاكمة وحول وطنيّة القوى المعارضة لها غير ذي معنى! علينا أولا تحديد معيار الوطنية ..هي هل من وطن الجماعة و الذود عن مصالحها! و ما هو معيار مصالحها و من يحدّد هذه المصلحة ؟ و ما هي درجة تمثيل السلطة الحاكمة لمصالح و تطلعات الشعب ؟ كثيرا ما يجري استخدام صفة الوطنية في الخطاب السياسي العربي الرسمي و الشعبوي في سياق المديح و الذمّ, و كجزء من مقتضيات الصراع على السلطة, كل هذا مفهوم تماما ...و لكن مالم نقوم بربط الوطنية بالمواطنة و دولة المواطنة المتساوية سيكون أي حديث عن الوطنية فارغ و لا معنى له ! هل كان الزعيم الألماني النازي هتلر وطنيّا؟!.. حيث يوجد ربما الكثير – خصوصا في المجتمعات العربية - يميل الى اعتباره مثالا للوطنية و الزعامة المُستحقّة . هل كان دافيد بن غوريون مؤسس اسرائيل زعيما وطنيا؟! حيث أن غالبية الإسرائيليين يميل الى اعتباه مثالا و مُلهما للوطنية الإسرائيلية! و هو في النهاية ليس أكثر من مجرم حرب بمعيار عامة الناس عبر العصور و المجتمعات. فالوطنية بمقدار ما قد تمثّل قيمة ايجابية لدى فئوية معيّنة هي مفهوم اشكالي ينبغي اعادة تعريفه و تحديده في سياقات أخرى غير التي يستخدمها كثير من المثقفين العرب و سواء أكنوا من المؤيدين أو المعارضين للسلطة الحاكمة.
عاشرا- أميل شخصيا الى تسميات من قبيل: الثورة / الحرب السورية , الثورة / الحرب اليمنية , الربيع / الخريف العربي.. لوجود مركّبات أخرى في واقع و صيرورة الحدث الثوري تبرر ذلك. و قناعتي أن ثورات الربيع العربي انتهتْ الى الفشل ..فخمسة سنوات هي فترة كافية للحكم على هكذا تجارب أو لنقل كافية لاستبصار طريق هذه الثورات, فأن تنتهي الثورة الى ترسيخ حكم ديكتاتوري جديد كما حدث في مصر هو فشل بلا شك؟! أو أن تنتهي الثورة الى دولة فاشلة كما هو الحال في ليبيا هو فشل بلا شك, أو أن تنتهي الثورة الى حرب عالمية بالوكالة و بروز مذبحة طائفية سنّية شيعية هو فشل بالتأكيد, مع استثناء تونسي يفتح نافذة في أقاصي العرب! و لا أستطيع أن أكون متفائلا في المستقبل القريب و المتوسط , وذلك لضعف حضور قوى حيوية فاعلة في ميزان القوى المُتصارعة حاليا,,, قد لا تنتصر ثورة خلال خمس سنوات هذا أمر ممكن و ممكن جدا و لكن ينبغي وجود ارهاصات و مؤشرات يُبنى عليها , لم تستطع الثورة/ الحرب السورية تقديم نموذج ايجابي لسلطة بديلة و لو في مناطق سيطرتها مثلا! و مجرّد التلفظ بكلمات علمانية و ديمقراطية يُعدُّ جرما في مناطق سيطرة فصائل الثورة / المعارضة ! الهوية الوطنية السورية تزداد تمزّقا بالشرخ الطائفي , و لم تظهر حتى الآن قوى حيوية منافسة للسلطة الأسدية ضمن المجتمعات الموالية و الحاضنة لها.
بالتأكيد يوجد اسباب موضوعية تفسّر هكذا فشل للثورة السورية ..أسباب لا تعود فقط لقصور القوى الثورية أو قصور السوريين أنفسهم ..و لكنّ هذا هو توصيف الحالة سريريّا.. و لكن من الضرورة بمكان الامتناع عن وصف الثورة السورية أو غيرها من ثورات الربيع/ الخريف العربي بالفشل بمعزل عن وصف الأنظمة الاستبدادية الحاكمة التي قامت عليها هذه الثورات بالفشل أيضا و بحكم مُشدّد, فأن تصل الأمور الى درجة قيام ثورة على سلطة حاكمة ( كانت تُمسك بمفاتيح البلاد و العباد لنصف قرن) هذا هو الفشل بعينه, خصوصا أن الحامل الشعبي الاساسي لهذه الثورة هم نفسهم من كانوا في الأمس الحاضنة الشعبية لسلطة النظام سابقا من فلاحيين و طبقات كادحة , نظام أحادي بعثي قومي عربي و بعصبية طائفية , استمر يحكم باسمهم و رغما عنهم!
↧