في العام 1860، وبإعلانها تأييد أبرهام لينكولن، أسست صحيفة “نيويورك تايمز” لظاهرة أميركية بامتياز، فلا يكاد يوجد لها مثيل في العالم، وتتمثل في إعلان الصحف والمجلات، لاسيما الكبرى منها، “تأييدها” (Endorsement) لأحد مرشحي الرئاسة الأميركية. مع الإشارة إلى بروز هذا الدور مؤخراً لدى صحف بريطانية؛ باتخاذها موقفاً محدداً، والترويج له، بشأن اتجاه التصويت في الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي “البريكسيت”، في حزيران (يونيو) الماضي.
ويبدو السؤال الأساس هنا فيما إذا كان تأييد الإعلام (الأميركي) لمرشح (رئاسي) محدد، يتعارض مع “الحيادية” التي يتم تقديمها، غالباً، باعتبارها مكافئاً للمهنية الإعلامية. وهو سؤال تزداد أهميته في ضوء نتائج دراستين علميتين متباعدتين زمنياً، إلى حد ما، بشأن تأثير “تأييد” الإعلام على تعزيز فرص فوز المرشح الذي ينال هكذا تأييد، وبالتالي إضعاف فرص منافسه (أو منافسيه).
ففي دراستهما المنشورة في العام 2011، “انحياز الإعلام وتأثيره: دليل من تأييد الصحف” (للمرشحين الأميركيين)، انتهى تشن-فانغ تشيانغ وبرايان نايت إلى أن موقف الصحف المؤيد لمرشح محدد يلعب دوراً مؤثراً في تحديد اتجاهات الناخبين “المعتدلين” خصوصاً، لاسيما في حال جاء الموقف مخالفاً لاتجاه الصحيفة المعروف؛ كأن تؤيد صحيفة ذات ميول يمينية، مرشح الحزب الديمقراطي بدلاً من تأييدها -كما يُفترض- مرشح الحزب الجمهوري.
وهي النتيجة ذاتها التي انتهت إليها أيضاً الدراسة الأحدث المنشورة في شباط (فبراير) الماضي، لكل من أوغستين كاساس ويارين فواز وأندريه ترينداد، “فاجئني إن استطعت: افتتاحيات التأييد الصحفية في الانتخابات الرئاسية الأميركية”؛ مؤكدة على عنصر “المفاجأة”، من قبيل ما حصل في الانتخابات الحالية بانقلاب صحف مثل “هيوستن كرونيكل” و”ذي دالاس مورنينغ نيوز” و”سنسيناتي إنكويرر” على تاريخ من تأييدها المرشح الجمهوري، معلنة هذا العام تأييدها مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون. وهي “المفاجأة” التي تنطبق بدورها على خروج صحيفة “يو. أس. إيه تودي” ومجلة “ذي أنتلانتك” عن تقليدهما بعدم اتخاذ موقف من مرشحي الرئاسة، ولتدعو الأولى هذا العام إلى عدم التصويت للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، فيما حثت الثانية الناخبين على التصويت لكلينتون.
وعودة إلى السؤال الأول، فإن من المؤكد، بداهة، أن مثل هذا “الانحياز” الإعلامي قد يكون من وجهة نظر البعض، وكما يكرر ترامب، متعارضاً مع “المهنية” الإعلامية. لكنه من وجهة نظر أخرى قد يبدو بمثابة التزام من وسائل الإعلام بمسؤوليتها تجاه قرائها، بتوفير المعلومة الصحيحة التي تساعد في اتخاذ القرارات بشأن قضايا كبرى، من قبيل اختيار رئيس البلاد الذي يتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة في نظام الحكم الأميركي.
ولعل ما يدعم وجهة النظر بأن “الانحياز” عبر تأييد مرشح محدد، إنما يندرج في باب تحمل المسؤولية المجتمعية والوطنية، أكثر بكثير من كونه تعارضاً مع “المهنية”، هو استمرار هذه الظاهرة وتوسعها لما يزيد على قرن ونصف القرن الآن، وهو ما يمكن تبريره بصواب موقف الصحف، وفقاً لمعادلة “العرض والطلب”. وبحسب ميكا كوهين في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز” العام 2011، فإنه منذ العام 1972 وحتى العام 2008، فاز سبعة مرشحين للرئاسة نالوا نسبة التأييد الأعلى من الصحف، في مقابل فوز ثلاثة نالوا تأييداً أقل من منافسيهم، وهم جيمي كارتر (1976) وبيل كلينتون (1996) وجورج بوش الابن (2004). ونعرف الآن النظرة السلبية لكل من كارتر وبوش الابن.
هل يمكن القول إنه في القضايا الوطنية الكبرى يغدو الانحياز -وليس الحياد- دعامة رئيسة للمهنية، من دون أن يعني ذلك طبعاً قمع الرأي الآخر؟
الغد - منار الرشواني
↧