عند الكشك المجاور للقصر العدلي في دمشق، يدخل أبو محمود، من حي جوبر الدمشقي لتصوير بعض الأوراق الثبوتيه بغية تقديم إخلاء سبيل لابنه الموقوف. أحد الأشخاص المتواجدين في الكشك، وبعدما قرأ مكان تولد أبو محمود، وإقامته على هويته الشخصية، سأله، إن كان يملك عقارات أو أملاك في جوبر. أبو محمود، أجاب بنعم، و"لكن منذ ثلاثة أعوام بعد خروجنا منها لا أعرف عنها شيئاً".
:
عندها ابتسم معقب المعاملات وقال له: "لا عليك، العودة إلى بيوتكم أمر مستحيل، انظر إلى داريا الزبداني والغوطة لم يعد إليها أهلها ولن يعودوا، إذا أردت بيع أملاكك نحن نؤمن لك من يشتريها وبسعر ممتاز". وفعلاً عرض عليه بيع عقاره بمبلغ 200 ألف ليرة سورية (400 دولار) للمتر الواحد.بحسب أبو محمود، فإن معقب المعاملات أكد له استعداده لتأمين شراء جميع الأراضي في جوبر، حيث سوف يتم بناء "مجمع طبي تعود ملكيته لطبيب شامي مغترب". !!!!!
أبو محمود، واحد من مئات الأشخاص الذين يتم عرض عليهم بيع بيوتهم التي تركوها وهجروها، ولا يعرفون عنها شيئاً، مقابل مبالغ ضخمة بالنسبة لمن هم في سوريا. هذه العروض التي يقوم بها معقبو المعاملات، أصبحت حديث سكان دمشق، حيث بدأت تنتشر ظاهرة بيع الأراضي في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
حركة بيع العقارات كانت قد بدأت منذ أكثر من عام، بعد ركود أصاب سوقها نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة، وفقدان عوامل الاستقرار والأمان. ونشطت الحركة من جديد بداية العام 2016 عن طريق عدد من معقبي المعاملات والمكاتب العقارية ذات الصلات الأمنية.
"المدن" حاولت السعي للكشف عن الطرق التي يتم فيها بيع الأملاك والأراضي. والعقبة الأولى التي تقف بوجه من يريد تثبيت ملكيته للأرض الواقعة في ريف دمشق هي أن المستندات الأصلية التي تؤكد ملكية صاحب الوثيقة لأرضه موجودة في مدينة دوما، الخارجة عن سيطرة النظام، وبالتالي لا يمكن لأحد في ريف دمشق تأكيد أو فرز عقار بسبب تعذر الوصول إلى هذه المستندات.
لكن في كانون الأول/ديسمبر 2015 أصدر الرئيس السوري بشار الأسد "القانون الناظم لأصول المحاكمات الجديدة"، الذي تنص مادته الـ34 على أنه "إذا تعذر تبليغ المدعى عليه وفق أحكام المادة /22/ وما يليها بسبب ظروف استثنائية يجري التبليغ بإحدى الصحف اليومية في العاصمة أو في أحد مراكز المحافظات وفي لوحة إعلانات المحكمة بقرار معلل من رئيس المحكمة وعلى الموظف المختص بيان سبب التعذر في محضر التبليغ على أن يتم التبليغ قبل خمسة عشر يوما على الأقل من تاريخ موعد الجلسة مع مراعاة مهلة المسافة".
هذا الباب القانوني الذي فتحه النظام شكّل ثغرة سمحت بالوصول إلى شراء الأراضي، من دون وجود السجلات الأصلية التي تؤكد عدم صحة الوثيقة المقدمة.
وبحسب ما علمت "المدن"، فإن سلسلة من مكاتب معقبي المعاملات، يبلغ عددها 20 مكتباً، موزعاً في المزة فيلات شرقية والعدوي وجرمانا و باب توما. وتقوم هذه المكاتب باستصدار عدد من الوكالات المزورة والممهورة بأختام كاتب العدل. وتعمل هذه الشبكة على البحث بين النازحين إلى دمشق، ممن يعانون ضائقة مادية كبيرة أو لديهم معتقلين ويريدون أموالاً لإخراجهم من سجون النظام، لتعرض عليهم بيع ممتلكاتهم، حتى ولو كانت لا تزال تحت سيطرة المعارضة.
وإذا كان الشخص يملك جميع الوثائق اللازمة التي تثبت ملكيته للعقار يتم أخذ نسبة 5 في المئة من قيمة العقار، مقابل ضمان فصل القاضي بالدعوة لتثبيت حق البائع بملكيته العقار.
أما في حال عدم امتلاك البائع جميع الأوراق الثبوتية، فيتم استصدار وثيقة تبلغ قيمتها ما يقارب المليون ونصف ليرة سورية (3 آلاف دولار)، يدفعها مالك العقار ومن ثم يتم إجراء عملية البيع مع تكاليف العمولة التي تبلغ حوالي 5 في المئة من قيمة بيع العقار. ثم يتم عرض العملية على قاضي "الأحوال المدنية" في دمشق، والذي يؤكد بدوره صحتها. وبالتالي تصبح هذه الوثائق دليلاً فعلياً على امتلاك المشترين لتلك الأراضي.
تابعت "المدن" التحري عن عملية بيع العقارات، وتبيّن أن شبكة معقبي المعاملات والمكاتب العقارية متصلة مع بعضها البعض، وترتبط عبر وكلاء مكاتبهم في العاصمة دمشق، برجل الأعمال المقيم في الكويت مازن الترازي، الذي أطلق في نيسان/إبريل 2015 حملة مساندة للنظام تحت عنوان "راجعين سوريا". وقد أعلن الترازي في وقت سابق، استحواذه على فنادق ومنتجعات "شيراتون صيدنايا"، في حين أن الوكيل الثاني للعقارات في مناطق المعارضة، هو رجل الأعمال بشار كيوان، المقيم أيضاً في دولة الكويت.
كشفت مصادر لـ"المدن" أن عملية بيع الأراضي بدأت بفكرة مشروع عرضها مدير "مجلس رجال الأعمال السوري الإيراني" سامر الأسعد. وينتسب إلى "المجلس السوري-الإيراني" مازن الترازي وبشار كيوان، ويعمل الجميع لصالح رجل الأعمال الإيراني رستم قاسمي. والسعي لشراء هذه الأراضي يتم بواسطة "المجلس السوري الإيراني" من خلال الترازي وكيوان، اللذين يقومان بشراء الأرض، وإسنادها إلى ملكية "المجلس السوري الإيراني".
وبذلك يكون "المجلس" هو الغطاء القانوني الذي تنتقل فيه الملكيات من السوريين إلى إيرانيين، من دون خلق أي توتر، خصوصاً وأن هذا المسألة أصبحت تثير الحساسيات عند السوريين في السنوات الخمس الأخيرة. ومهمة "المجلس" هي ربط التجار العقاريين في دمشق مع الوكيلين كيوان والترازي، لتصل الملكية في النهاية إلى "المجلس السوري الإيراني" باعتباره مؤسسة لها شخصيتها الاعتبارية. بينما يشغل هذه المشاريع ويقوم بإعادة إعمارها، عدد من رجال الأعمال الإيرانيين أبرزهم رستم قاسمي.
ووفق القانون السوري، يسمح فقط للمؤسسات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية المسجلة في سوريا بامتلاك أراض وعقارات. ولا يسمح للمقيمين الأجانب بشراء منازل في سوريا باستثناء الفلسطينيين.
و"المجلس الإيراني السوري" أنشئ بعيد انطلاق الثورة السورية في العام 2011، واتخذ من بناء سكر في ساحة الميسات مقراً له. ويسعى وفق بيانه التأسيسي إلى خلق مناخ للاستثمار وتنسيق الأعمال مع السفارة الإيرانية.
"المجلس" الذي أصبح الذراع الاقتصادية الأقوى في سوريا، يُشكل المعادل الاقتصادي للمليشيات الإيرانية التي تقاتل في سوريا.
وبحسب البيان التأسسي، فلتكون عضواً في "مجلس الأعمال السوري الإيراني" عليك أيضاً أن تتقدم بطلب إلى أمانة سر وسكرتارية المجلس، وأن تكون عضواً في إحدى الغرف المحدثة في سوريا؛ التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو المصدرين أو السياحة أو الملاحة أو النقابات المهنية. وبهذا يكون المجلس الذي يسميه الكثير من أبناء العاصمة "الأخطبوط الإيراني" قد مد أذرعه إلى جميع الفعاليات الاقتصادية والمهنية داخل دمشق وأصبح صاحب القرار المهيمن فيها.
وكشفت مصادر "المدن" أن المجلس يقوم بتمويل العديد من الغرف ودعم أفرادها مادياً، ومن ثم يتم استقطاب الباقين بحيث يصبح لأعضاء المجلس الأكثرية في استصدار أي قرار من هذه الغرف.
ويصدر المجلس بطاقات عضوية للأشخاص المنتسبين له، وتعتبر هذه بطاقة أمنية للفعاليات الاقتصادية، بحيث يمنع التعرض لهم أو مساءلتهم من دون طلب إذن المجلس، ويعاملون معاملة ضباط قوات النظام بتسهيل تنقلهم وتحركاتهم، كما يتم تسهيل حركتهم خارج سوريا.
ومن أعمال "المجلس الإيراني السوري" تجهيزه للبناء الضخم على أوتستراد المزة بالقرب من السفارة الإيرانية، في حين يسعى لإقامة سلسلة فنادق على الأراض المواجهة لكلية الطب البشري. وهو المسؤول عن إعادة الإعمار في شارع المصطفى خلف مشفى الرازي والمعروف باسم مشروع "حلم دمشق".
وكانت إيران خلال السنوات القليلة الماضية، قد اشترت أهم الفنادق في العاصمة دمشق، ومنها الإيوان وآسيا وفينسيا والبتراء وكالدة، والتي شكل "المجلس السوري الإيراني" أيضاً الغطاء الاقتصادي لها.
وعلاقة إيران بفنادق دمشق قديمة، تعود إلى زمن الحرب العراقية–الإيرانية، إذ عمدت آنذاك إلى استئجار فنادق بكاملها، وبعقود سنوية، من أجل تأمين إقامة الزوار الإيرانيين إلى "أماكنهم المقدسة" في سوريا، من خلال ما يعرف باسم "مؤسسة الشهيد للحج والزيارة".