آخر ما كتبه ياسين الحاج صالح مقالة ممتعة عن “الدواعش الذاتية”(الحياة 19-8-2016)، وآخر ما كتبه الباحث المتنور في الشأن الديني محمد شحرور مطالباً “برفع الغطاء عن الاسلام الموروث”(19-8-2016 http://againsterhab.com/ )، وآخر مقالات الفضل شلق عن الدواعش منشور في التاريخ ذاته في جريدة السفير. سبق أن نشرت كتاباً عن “الأصوليات” في تسعينات القرن الماضي، وسال حبر كثير منذ جمال الدين الأفغاني والكواكبي حتى نصر حامد أبو زيد وصادق جلال العظم وسواهما. كأن كل هذا الكلام كان يدور “في مطحنة” أو “بين طرشان”، حتى بدا الاصلاح الديني، بعد قرنين من الزمن، أمراً ميؤوساً منه، أو كأن داعش قدر مولود من “طبائع” الأمة المتخلفة. بيد أن الأمر ليس على هذه الصورة. كل المحاولات البحثية والنقدية مفيدة من غير شك، لكن لم يحن أوان القطاف بعد. أو ربما كان شيء يشبه التفاعل الكيماوي الذي لا بد حاصل، لكنه لا يحصل من غير عامل مساعد(كاتاليزور)، أو ربما صح حلم محمد الماغوط في الصعود إلى السماء على “سلم من الغبار ليعرف أين تذهب آهاتنا وصلواتنا”، وليكتشف أنه “لابد من ان تكون كل الآهات والصلوات وكل التنهيدات والاستغاثات المنطلقه من ملايين الافواه والصدور وعبرآلاف السنين والقرون متجمعة فى مكان ما من السماء… ” وما علينا إلا انتظار المطر. داعش ليست ظاهرة استثنائية ولا هي مرض عضال. إن هي إلا مولود طبيعي من صراع بين قديم وجديد، بين حضارة ناشئة وأخرى على طريق الزوال. داعش “العراق والشام”، مثل سائر الدواعش خارج العراق والشام، ليست سوى كنيسة القرون الوسطى في مواجهة لوثر والبروتستانتية، وفي مواجهة العلوم الوضعية وغاليليه وكوبرنيكوس، وفي مواجهة الدولة الحديثة دولة القانون والمؤسسات. وهي ليست سوى الجانب المستبد داخل كل نظام أو حزب في السلطة أو في المعارضة، موجودة في كل الدول وفي كل الأديان والمذاهب والقوميات، ولهذا تبدو ظاهرة في غاية التعقيد، قد يناصرها أحياناً من يفترض أن يكون خصماً لها وقد يناصبها العداء من هو على شاكلتها. إن صحت هذه المقارنة، وهي في يقيني صحيحة، فإن غيوم لوثر وحركة الاصلاح الديني واكتشافات العلوم الطبيعية والكيمياء والفيزياء والرياضيات التي استمرت تتلبّد في سماء أوروبا التنوير، حوالي ثلاثة قرون،(من عام 1492 حتى عام 1789) لم تمطر إلا بعامل لعب دوراً حاسماً، وليس كمساعد فحسب، وهو الثورة الفرنسية التي، باسمها وباسم الحضارة الجديدة التي مثّلتها، أقدم نابليون بونابرت على اعتقال البابا ليفاوضه ويعقد معه اتفاقاً، توصّلا بموجبه إلى وضع حد فاصل بين صلاحيات الكنيسة وصلاحيات الدولة. للأولى حق الاشراف على التربية الروحية للبشر، بحماية الثانية، على أن يكون تنظيم شؤون المجتمع السياسية والإدارية والمالية وكل ما يتعلق بالحياة المشتركة بين الأفراد حقاً حصرياً بيد الدولة. فضل لوثر والعلم الوضعي كبير على عملية التحول، لإنهما سارا في اتجاه خط التطور المادي وقدما له دعماً ثقافياً ولاهوتياً وساهما بفعالية بانتصار منهج السببية والعقل العلمي على علوم الغيب، غير أن الانتصارات الموضعية والجزئية ما كان لها أن تتحقق لولا مظلة السياسة وحماية السلطة السياسية. أمراء الشمال الأوروبي واكبوا حركة التحديث الفكري واحتضنوها، ما مكن البروتستانتية من الانتشار في ألمانيا والبلدان السكندينافية والبلدان المنخفضة، بينما منيت بالهزائم في الجنوب حيث تحكم الكنيسة بقبضة استبداد فكري وسياسي من حديد، إلى أن جاء نابليون وتعممت تجربة الثورة الفرنسية على معظم أنحاء أوروبا، فتوحدت ألمانيا وكذلك إيطاليا، ووضعت حدود للدول المستحدثة، ودخلت أوروبا في عصر حضارتها الجديدة بعجرها وبجرها، أي بالحداثة والتطور والوفرة والصناعة وعهد الجمهوريات من جهة، ومن جهة أخرى بالتوسع والتنافس والصراعات القومية التي لم تتوقف إلا بالحربين العالميتين. لوثر والعلم والبرجوازية انتصروا وبنوا الحضارة الرأسمالية على دعائم متينة من بينها “إخراج الكنيسة من بطن السياسة” وإعادة الدين إلى بيوت الدين. توفرت الشروط ذاتها في تونس البورقيبية أو في عهد الاصلاحات الأخيرة في المغرب، حيث انسحب الدين من الحياة العامة ليعود إلى المساجد، وتحدد دور رجال الدين كموظفين لدى الدولة. لم يكن ذلك حلّاً أمثل بل مجرد خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنه لم يحصل ما يشبهه في أنظمة الاستبداد، لا في علمانيات قومية ويسارية مزعومة، كمصر الناصرية وفيها الأزهر أو عراق النجف التي رزحت هي وسوريا تحت استبداد بعثي، ولا في سواها، حيث تحاصص رجال الدين والسياسيون السلطة وتواطؤوا ضد صلاحيات الدولة، وتوزعوها في ما بينهم على حساب القانون والديمقراطية، مستخدمين في سبيل ذلك كل أساليب التضليل المتاحة، وكل ما وفرته لهم الحضارة الرأسمالية من ذرائع ومبررات للوقوف في وجه أي مظهر من مظاهر التقدم والتطور على الصعيد السياسي، مانعين، في هذه الحالة، كل حركة أصلاح ديني من بلوغ نهاياتها الحميدة. كأني بكل واحد من رجال الدين المنتظمين في وزارات الأوقاف ودور الافتاء والمجالس الملّيّة، أو غير المنتظمين من الدعاة والأمراء والمرشدين الروحيين وخطباء المساجد والمؤذنين وغاسلي الموتى ومشاهدي هلال الإفطار والأضحى الثقاة، كأني بهم يرددون قول الشاعر: “أنا نبي لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء”، فيحرثون عقول الدهماء بفتاوى وتأويلات تسقط كالحفر والتنزيل في الوعي العامي الذي يصغي إليهم أكثر مما يصغي لكتاباتنا أو لمقالات ياسين الحاج صالح ومحمد شحرور والفضل شلق. داعش آفة ينبغي الخلاص منها، لكن ليس بالقضاء عليها، بلغة السحل والإبادة، ولا بالاكتفاء بتجفيف مصادرها التمويلية فحسب، ولا يمكن أن تكون بدائلها من طينتها الاستبدادية. على أهمية هذه البحوث التي لا بد من متابعة الخوض في غمارها. لن يصلح حال هذه الأمة إلا بتسوية يرضى بها رجال الدين أو يرغمون عليها، فيتخلوا عن أدوار صادروها هي من صلاحيات الدولة وحدها، فلا يكون لهم قضاء مستقل ولا جبايات مالية مستقلة ولا مكبرات صوت. تسوية لن يصنعها إلا سياسيون من طراز جديد، سياسيون يؤمنون بالديمقراطية حقاً ويواجهون الاستبداد، ولا يعترفون بغير التنوع والتعدد والاعتراف بالآخر طريقاً وحيداً لبناء مستقبل الأوطان.
المصدر: المدن – محمد علي مقلد