كانت الثورة السورية الكبرى عام ١٩٢٥ بقيادة سلطان باشا الأطرش ، امتدادا للثورة العربية الكبرى ١٩١٦ بقيادة الشريف حسين ( شريف مكة ) ، واللتان كانتا واقعيا ( وهذا من وجهة نظر الكاتب ) باكورة المرحلة الانتقالية من الفكر الديني إلى الفكرالعلماني، والتي (المرحلة الانتقالية ) مازلنا نعيشها بل و نعيش إشكالاتها وإفرازاتها ، السلبي منها والإيجابي ، حتى يومنا هذا ، و في رؤيتنا الخاصة فإن ثورات الربيع العربي عام ٢٠١١ بصورة عامة ، والثورة السورية منها بصورة خاصة ، هي من بين أهم مفرزات هذه المرحلة الانتقالية ، ذلك أنه من الناحية التاريخية فان هتين الثورتين ( ثورة الشريف حسين ١٩١٦ وثورة ١٩٢٥ السورية ) كانتا تمثلان باكورة المرحلة الانتقالية من الدولة الدينية ( العابرة للقوميات ) إلى الدولة القومية ( العابرة للعصبية القبلية والطائفية والمناطقية ) القائمة افتراضاً على مبدأ المواطنة والدستور وصندوق الاقتراع ، وهو مايمثل مثلث الديموقراطية التي من المفروض أيضاً أن يتعايش في ظلها كل من القومي والقطري الديني والعلماني ، الأكثرية والأقلية ، الحاضر بجناحيه الماضي والمستقبل ، وآن يكون الصراع بين المختلفين سلميا ، الحكم ( بفتح الحاء والكاف ) الفيصل فيه هو صندوق الاقتراع وليس الدبابة أو الطائرة أو بساطير الجنرالات
ولكن لابد من القول هنا ، إن الديموقراطية التي تعتمد عادة ( في الدول الغربية الديموقراطية ) رقم ال ٥١٪ للوصول إلى " الحكم" إنما تنطوي على عدد من الإشكالات الاجتماعية والسياسية في العالم الثالث ومنه وطننا العربي وقطرنا السوري أبرزها :
1. إمكانية تدخل عسكري خارجي يجعل ال ٤٩٪ أقوى من ال ٥١٪ . بل ويمكن أن يجعل من أية نسبة يفرزها صندوق الاقتراع صفرا على الشمال كما حدث في العراق عام ٢٠٠٣ ، حين أطاح الأمريكيون بحكم حزب البعث العربي الإشتراكي في العراق ، متجاهلين كل نتائج الانتخابات والاستفتاءات الديموقراطية منها وغير الديموقراطية ، وكل النسب المئوية التي أفرزتها صناديق الإقتراع في تلك الإنتخابات والإستفتاءات ،
2. إمكانية تفوق ال ٤٩٪ على ال ٥١٪ في مجتمع تغيب فيه الثقافة الديموقراطية ، وبالتالي ثقافة المواطنة ، وتهيمن على حياته الاجتماعية والسياسية العصبيات المختلفة ، القبلية والعشائرية و الطائفية ، والعائلية ...الخ ،
3. إمكانية تدخل الجيش بالقيام بانقلاب عسكري ( البلاغ رقم ١ ) ينهي فيه الحياة الديموقراطية من أساسها كما فعل حسني الزعيم في سورية عام١٩٤٩ وتبعته سلسلة الإنقلابات العسكرية المعروفة التي شهدتها الحياة السياسية في سورية مابين ١٩٤٩و١٩٥٤، والتي استؤنفت مابين ١٩٦١ ( النحلاوي ) و ١٩٧٠( حافظ الآسد ) ، وكما فعل عبدالفتاح السيسي في مصرعام ٢٠١٣ ( وهذا على سبيل المثال وليس الحصر ) ،
4. الديموقراطية المشروطة (!!) ، وهي ديموقراطية بعض العلمانيين ، وبعض الأقليات الدينية والطائفية ، الذين يعلنون قبولهم بالديموقراطية ، ( ولكن !) بشرط ألا يفاجئهم صندوق الإقتراع بمن يعتبرونه ( هم ) من أعداء الديموقراطية . أو أنهم لايرغبونه .
واقع الحال ، إن شعرة معاوية غالبا ماتربط هؤلاء بمن أشرنا إليهم في الفقرة الأولى أعلاه ،
5. التزوير، في برنامج " المقابلة " تاريخ ١٧/١١/٢٠١٦ ، قال باني ماليزيا الحديثة مخاتير محمد إن كل نتيجة يفرزها صندوق الاقتراع ، تزيد عن ال٩٠٪ لابد أن تكون مزورة ، والسبب برأيه هو أنه لايوجد نظام سياسي في العالم بدون معارضة ، وأن وزن وحجم هذه المعارضة لابد أن يظهر في صندوق الإقتراع النزيه والشفاف ، أي البعيد عن الخوف والتزوير .
هذا مع العلم أن للتزوير أشكالا وألوانا ، وتحضرني الآن حكايتان تتعلقان بهذا الموضوع :
الحكاية الأولى : وهي الطرفة التي قام بها الدكتور محمد مصدق عام ١٩٥٣ في إيران بعد أن فرضت انجلترا وأمريكا عليه استفتاء صورياً لحل البرلمان ، قاموا هم بتزويره لصالح عميلهم (فضل الله زاهدي ) ، حيق قام الدكتور مصدق بالسجود آمام صندوق الإقتراع ، ولما سأله الناس عن سبب سلوكه هذا ! ، أجابهم : إنه ، صندوق مقدس ! ، تدخل ورقة الناخب فيه باسم محمد مصدق و تخرج منه باسم زاهدي !. ) ،
أما الحكاية الثانية ، فهي التي حصلت في انتخابات عام ١٩٧٣النيابية الصورية في سورية ، وفي قرية ( بصر الحرير) في حوران ، وهي القرية التي عادة ما يحصل المرحوم محمد خير الحريري على كامل أصوات ناخبيها . دخل أوائل الناخبين ليمارسوا حقهم الانتخابي وسرعان ما خرجوا وهم يعلنون على الناس أن صندوق الإقتراع ممتلئ بالأوراق المزورة ، ولم يبق فيه مكان لأوراق ناخبي القرية . حدثت ضجة ، كسر الناخبون الصندوق فوجدوه ممتلئاً بالفعل بالأوراق المزورة لصالح مرشح النظام ( لاأذكره) . تدخل السيدان نواف منذر وفؤاد منذر( المسؤولان الأمنيان في محافظة درعا آنذاك )، وتدخل معهم المرشح محمد خير الحريري ، بناء على طلبهما ، وجاؤوا بصندوق آخر جديد ، واستؤنفت عملية " التصويت " . هذه القصة باتت معروفة في حوران .
وذات مرة كنت وصديقي ( ....) مسافران بسيارة ذلك الصديق ( أنا لا أملك سيارة ) من دمشق إلى درعا ، وعندما وصلنا إلى مدينة شيخ مسكين ( مدينة السيد محمد خير الحريري ) شاهدنا السيد النائب يقف على الطريق العام ينتظر سيارة عابرة تنقله إلى درعا ، توقفت سيارتنا إلى جانبه وسألناه إذا كان يرغب أن يصعد إلى السيارة ، فوافق شاكرا وصعد إلى السيارة . رغبت أن أستفيد من وجوده معنا وسألته عن صحة قصة التزوير في بصرالحرير ، أجاب رحمه الله : نعم إنها حقيقية ، وتابع : عندما طلب مني السيدان نواف منذر وفؤاد منذر أن أتدخل لتهدئة الوضع في بصر الحرير ، استجبت لطلبهما ، وخلال حديثي معهما حول عملية التزوير ، قلت لهما : ( والله ياعمي إنكم أيها البعثيون شرفاء !)، استغرابا إطرائي للحزب رغم عملية التزوير ، وسألاني ماذا تقصد بكلامك يا أبا الخير؟ فقلت لهما ، أقصد بكلامي ( إنكم أيها البعثيون قادرون على أن تناموا مع نسائنا ، ولكنكم والحمد لله لا تفعلوها ، فشكراً لكم (!!) ) .
خلاصة الأمر ، هي أن الإشكالية التي يمكن أن تترتب على مبدأ ال ٥١٪ الديموقراطي ، في بلدان العالم الثالث عامة ، ومنه وطننا العربي ، ومنه قطرنا السوري ، تتمثل في أن نسبة ال ٤٩٪ ، لا تبعد كثيراً عن نسبة ال ٥١٪ ( المسافة الإحصائية ) . وبالتالي فإن صندوق الإقتراع قد لا يكون حلا لإشكالية ما سياسية أو إجتماعية في بلد تعشعش فيه القيم القبلية ، ولم تترسخ في وجدان مواطنيه بعد ثقافة الديموقراطية ، وبالتالي ثقافة المواطنة ، ومن هنا فإن على من يعنيهم الأمر ، البدء ببناء الأساس المتين ، العلمي والأخلاقي ، الذي ستقوم عليه البنية الديموقراطية ، حتى في حال كونها بحدود ال51 % .
إنني من الذين يؤمنون بأن أخطاء وعيوب الديموقراطية ، لايصلحها سوى المزيد من الممارسة الديموقراطية ، ولكن الديموقراطية الحقيقية وليست ديموقراطية الكذب والتزوير .
↧