لا يوجد لدى جمهوريات العسكر العربية مزارع موز كي تتاجر بها، لذا فقد لجأت للمتاجرة بأوطانها والمقايضة بشعوبها، فقُتل من قُتل وهجرْ من هجرْ وابتلعت البحار من ابتلعت، وكان لكل أشرار الأرض نصيبها من الدم العربي، بما فيها الضواري والكواسر.
.
لذلك يجب علينا نحن العرب أن نعتذر من “جمهوريات الموز″ في أمريكا اللاتينية التي أول من أُطلق عليها هذا المصطلح السياسي، منذ أن كانت تُدار من الخارج بعد أن فقدت سيادتها وإرادتها الداخلية والخارجية، بما فيها إرادة الاستمرار والحياة، حيث كان الجنرالات والعائلات المكلّفون بإدارة أمورها يضمنون استمرارهم واستمرار ديكتاتوريتهم باستمرارية الخضوع لسيدِّهم الأميركي، حتى باتت تلك الدول بلا سيادة ولا كرامة وطنية، لا قرار للناس في مصيرها، ولا قرار للدولة في شؤون رعاياها، وإنما كل شيء كان في يد زارع الموز الأميركي وقاطفه وتاجره، الذي وحده من يستغل ومن يربح، ووحده من يتصدّق على الجماهير الجائعة.
.
أكثر من قرن من الزمان مرّ على هذا المصطلح عندما أطلقه الكاتب الأمريكي “أو هنري” (oh Henry) بمجموعة قصصه التي جرت أحداثها في أمريكا الوسطى، مشيرا بذلك إلى هندوراس تحديدا، التي سمحت حكومتها الدكتاتورية لبعض الشركات الأمريكية ببناء مستعمرات زراعية شاسعة على أراضيها، مقابل المردود المالي وضمان استمراريتها، تطور هذا المصطلح حديثا فأصبح يُطلق على الأنظمة الديكتاتورية غير المستقرة، وبالأخص عندما تكون الانتخابات في البلاد مزورة أو فاسدة، ويكون قائدها خادماً لمصالح خارجية.
.
أليس هذا هو حالنا اليوم مع جمهوريات العسكر في عالمنا العربي ! التي لم يعد لديها ما يُذكر سوى النواح والبكاء، هذه تحولت لقبائل وعشائر متناحرة لم يعد لديها الوقت الكافي لإحصاء الجثث، وتلك ضربتها الطائفية المقيتة فأخذت تَسبحُ في بحر من الدماء اليومي، فيما أخرى أخذت تستعين بجيوش وأساطيل أجنبية لتحافظ على تَسُّيدِها، ورابعة لم يعد باستطاعتها اختيار رئيسا لها بعدما كانت يوما محجّا لكل ملهم، وكل ذي فكر حر من مفكرين وشعراء وفنانين.
.
إنها لمفارقة عجيبة ! هل يُعقل أن يكون بداية قرن العرب العشرين أفضل بعشرات المرات عن بدايات قرنهم الواحد والعشرين؟ رحل الاستعمار عن دولنا وترك لنا برلمانات ودساتير ومشاريع دول مدنية حديثة، رحل وترك لنا ملوك، عندما انقلب جنرالات الجيش عليهم وأخرجوهم من قصورهم لم يستقتلوا دفاعا عن تيجانهم كما يفعل قادة جمهوريات الموز اليوم، بل لم يطلقون في وجوههم رصاصة واحدة.
.
لذلك ثمة من يستصرخ اليوم من العرب ويستغيث! بربكم أعيدوا لنا الملَكيّات بعد أن سقطت دولة القانون وقام مكانها حكم العسكر التأبيدي، منذ حوالي قرن من الزمان لم يكن لدى ممالك العرب دماء تسيل بهذا الشكل الذي نشاهده اليوم، كان ملك ليبيا “إدريس السنوسي” برحلة علاجية في تركيا، عندما قام الملازم معمر القذافي وزملائه العسكر بالانقلاب عليه، بل عند محاصرتهم القصر الملكي، سارع ولي العهد ومُمثّل الملك بالتنازل عن الحكم، أما الملك نفسه فأرسل إلى الانقلابيين سيارتَي المرسيدس اللتين كانتا في تصرّفه لأنهما مُلكا للدولة، في حين وزَّع الأخ العقيد على أبنائه خيرات البلاد والكتائب المسلّحة، وعندما قضى نحبه قيل إن مجموع ما حصده وعائلته من جرذان الجماهيرية العظمى يفوق 150 مليار دولار.
.
في العدد الأخير لأقدم مجلة بريطانية «ذي سبكتاتور» 26 سبتمبر/ أيلول الماضي، يصف “جي جي والدرون” في مقالة بعنوان «الطريق الملكي للسلام» العراق بأنه كان سويسرا مشرقية، ومثله من كان قد وصف سورية الخمسينيات بأنها “يابان الشرق” ويلوم والدرون الغرب لأنه لم يُصغِ للأناشيد الملكية، ولم يتطلّع لأعلامها التي ارتفعت خلال الثورة الليبية، بالحنين إلى أيام الملك السنوسي، موحِّد البلاد وحاكمها الورع والمتقشف العادل.
.
قبل مجيء حكم العسكر في العراق توعّد الملك فيصل، أنه سيجعل من وطنه جنائن معلقة يراها كل العالم! أعتذر منكم لم ندخل في تفاصيل المأساة التي تعرّض لها هذا الملك وعائلته على أياديهم، في تموز من عام 1958من قتلٍ وسحلٍ في شوارع بغداد وتقطيع أوصال، هذا يرفع بأصبع ولي العهد عبد الإله متفاخرا انظروا والله لقد قطعته بيدي، وذاك يسارع لقطع عضوه الذكري، وثالث يُغمِّده بسكين في دبره، فيما آخرون يربطون ما تبقى من جثته بالحبال ليعلقوها على أبواب وزارة الدفاع! ليعيدوا بنا الذاكرة ما عرفه تاريخ بغداد بالقرن الثاني الهجري من سحل أول خليفة عربي الأمين، في شوارعها، بعد صراعه مع أخيه المأمون على الخلافة.
.
شعوب مجنونة، كل الشعوب التي ثارت على ملوكها أبقت على قصورها الملكية، باعتبارها قيمة تراثية وفنية ووطنية، هكذا فعل الانكليز عندما ثاروا على الملك هنري الثامن، وهكذا فعل الفرنسيون عندما ثاروا على الملك لويس السادس عشر، ومثلهم فعل الألمان والاسبان وغيرهم، إلا الثوريين العرب الذين قاموا بنهب القصور الملكية وتدميرها،
.
بعد أن أُزيلت تلك القصور في الجمهوريات العربية ماذا كانت النتيجة؟ لقد قام العسكر ببناء عشرات القصور بدلا منها، ومنهم من حولّها إلى سجون، فقصر «الرحاب» في بغداد كان القصر الملكي الوحيد في عموم البلاد، أزاله صدام حسين ليبني مكانه 48 قصرًا، بدوره البشير الملاحق من قبل محكمة الجنايات الدولية أنهى منذ فترة بناء قصره المؤلف من مائة غرفة، يُذكر هنا أن البيت الأبيض لا يتجاوز عدد غرفه مائة وأربعة غرف، ومثله فعل بقية قادة هذه الأمة، لم تُدرك هذه الشعوب حينها أن هؤلاء العسكريون سيقودونهم إلى حيث حتفهم، لقد ثاروا معا على حُكم الأسر وأزالوها، جاء العسكريون ليحوّلوها لأنظمة استبدادية تحكمها الطائفة والأبناء والأشقاء.
.
كانت جبهات القتال في ظل الممالك العربية فقط مع إسرائيل، باتت في ظل أنظمة العسكر بمواجهة بعضها البعض، الحزب الذي يرفع شعار الوحدة العربية هو الذي تسبب في تدميرها، كنا بفلسطين واحدة بتنا بفلاسطين متعددة، يقول كارل ماركس: إن العضد الأول للثورات هو المفكرون والشعراء والفنانون، لقد زج كل من قادة تلك الثورات بعضدها في أقبية السجون، ليتضح لنا بأن الممالك وديكتاتورية شيوخ القبائل كانت أرحم بكثير من ديكتاتورية قادة الدبابات؟.
.
ختاما يروي رئيس وزراء لبنان الراحل تقي الدين الصلح، عن أن الملك فاروق طلب منه يوما إعطاءه دروسًا في معنى العروبة، وكان يُصغي إليه مثل تلميذ عادي،
.
في سنغافورة البلد الصغير وفقير الموارد جدا بعد أن حقق “لي كوان يو” المعجزة السنغافورية، لم يتردد زعيم أكبر دولة في العالم “الصين” لحظة واحدة في مخاطبته قائلا: “تعال علمنا، هات أسحرنا أيها القائد”
.
السؤال! مَن مِن عسكريي العرب اليوم يريد أن يتعلم؟ من منهم لا يعتبر نفسه قائدا للعروبة وأبوها، بل من منهم لا يعتبر نفسه هو الله!؟.
المصدر: منشور في رأي اليوم
↧