توصف مدينة اللاذقية بأنها عروسة الساحل السوري، وهي تؤوي أكثر من مليوني نازح، معظمهم من حلب وإدلب وحمص، تقيم العروسة التي بلا عريس في الظلام، منذ بداية الثورة السورية، بحجة أن الإرهابيين يستهدفون محطات الكهرباء، وقد جمع تجار الحروب مليارات الدولارات من تجارة البطاريات الكهربائية والمولدات، ومعظمها صناعة صينية، أي سريعة التلف، عشرة أشهر على الأكثر. يعاني سكان اللاذقية ومعهم النازحون (5 ملايين) من انقطاع الكهرباء خمس ساعات في اليوم، ثم تأتي ساعة أو أقل، ما يجعل المواطن السوري يتحول، رغماً عنه، من فصيلة الإنسان إلى فصيلة خفافيش الظلام، فالخفاش هو الحيوان الذي لا يرى، بل يعتمد في حركته على ذبذبات أجنحته. وقد درسنا في الطب أن العضو الذي لا يُستعمل يضمر، ولذلك، سكان الساحل السوري معرّضون لضمور في اللطخة الصفراء أو العصب البصري (أكتب هذا كوني طبيبة عيون)، فخمس ساعات من انقطاع الكهرباء تعني توقف الحياة، فالتلفاز والبراد والغسالة والمصعد مثلا تعتمد في تشغيلها على الكهرباء. ولا أنسى مشهد مئات العائلات كانت تحمل أكياساً ضخمة تحتوي المؤونة التي تعفنت في البراد بسبب انقطاع الكهرباء. وكان مؤلماً بكاء امرأة عجوز وهي ترمي، في برميل القمامة، أكياس الفول والبازيلاء والجبن وقد تعفنت كلها.
لنتأمل أي ذل لئيم يعيشه طلاب المدارس، وهم يدرسون على ضوء نوع من الشرائط الكهربائية النحيلة ويسمونها لدات، ونورها فاقع ومبهر ومؤذ جداً للعيون، ومعظم العائلات لا تملك ثمنها، فيدرس أولادها على ضوء الشموع، أما الإحساس بالبرد والحر فيُعتبر رفاهية، ففي الشتاء برد قارس، ولا توجد تدفئة بسبب انقطاع الكهرباء والمازوت أيضاً. وغالباً انقطاع جرة الغاز التي وصل سعرها، مرّة إلى أكثر من 7000 ليرة سورية. وللدقة، هي مغشوشة، أي نصفها ماء. في الصيف، لا يستطيع أهل الساحل النوم، بسبب الرطوبة العالية التي تقارب 100% أحياناً، وحتى تأتي الكهرباء الخامسة فجراً، ساعة، يكون فيها السوري قد سقط في إغماء يشبه النوم. ولا لزوم لهذه الساعة، لأن البطارية التي يُفترض أنها تشحن الكهرباء من محطات الدولة، لا تشحن أية كهرباء، لأن الكهرباء مقطوعة، والرفاهية الوحيدة التي يحسّها المواطن السوري من تلك الساعة المنيرة الوحيدة، كونه يستطيع أن يتفرّج على صور مآسي سورية في الفضائيات، وخصوصاً أخبار حلب، حيث مشهد استخراج الأطفال من تحت الأنقاض يومي.
وأكبر إجرام وقهر وذل لإنسانية الإنسان أن يلتقي حاله مع الحيوان في نقاط كثيرة. وقد عبرت لي صديقة عن شعورها، في أثناء انقطاع الكهرباء في اللاذقية خمس ساعات بالذل والقهر، أكثر من شعورها بالانزعاج من العتمة التي اعتادت عليها عيناها في الظلام، وضحكت فيما الدموع تسيل من عينيها، وقالت إنها صارت ترى في الظلام، وصارت كخفافيش الظلام، ولا تنقص المواطن السوري إلا الأجنحة، لينتمي تماماً إلى فصيلة الخفافيش. السؤال الذي لا معنى له: ماذا تفعل وزارة الكهرباء، وما دور وزيرها في حل أزمة الكهرباء؟ والمضحك المبكي أن معظم الشعب السوري لا يحفظ أسماء الوزراء، لأنهم لا يفعلون شيئاً، إلا قبض مهمات سفر إلى دول عديدة.
تمر أيام في اللاذقية (عروسة الساحل السوري التي استشهد عريسها وزُف إلى عرس الشهادة) أنه قد تمر أيام لا تنقطع فيها الكهرباء، بسبب خطاب مهم لسياسي مؤيد للنظام، أو بسبب مناسبات يُراد منها أن يرى الشعب كله مظاهر ابتهاجية زائفة، وأعراساً قومية ورقصات ولاء إلزامية، يشارك فيها مسؤولون والوزراء وأعضاء في مجلس الشعب. سبحان الله، يتوقف الإرهابيون، في هذه الأثناء، عن قصف فيولات الكهرباء (!).
أين روسيا وإيران ودعمهما اللامحدود لسورية، كما يدعون، وليس للنظام السوري، ألا تستطيعان حل مشكلة الكهرباء في الساحل السوري التي دخلت عامها السادس. وإلى متى سوف يتحمل هذا الشعب الجبار كل هذا القهر والذل، ويعيش كأنه في زمن القرون الوسطى. ولأن السخرية أكبر مُخفف للألم، فقد اقترح جاداً أحد المواطنين السوريين على صفحته على "فيسبوك" أن يبيع الناس برّاداتهم، وبأنه يهتم بمشروع صناعة النمليات (خزن خشبية جدرانها من الشبك المعدني الرفيع)، كان أجدادنا يستعملونها لحفظ الطعام من الحشرات. ليس مستبعداً أن ينجح مشروع النمليات هذا، وغيره، في غياب شبه تام للكهرباء في الساحل السوري، خصوصاً في اللاذقية، إذ تحول المواطن إلى خفاشٍ بلا أجنحة.
المصدر: العربي الجديد - هيفاء بيطار
↧