على عكس المتوقع مني، بوصفي كاتبة متحدرة من مدينة حلب الجريحة، لم أتمكن في الأشهر الأخيرة، من كتابة نص يرثي المدينة، بينما يجري تدمير المكان الذي شكّل جزءًا مهما من ذاكرتي وشخصيتي، فقد أصابني ما يصيب البشر من شعور بالفجيعة، بعد فقدٍ غير متوقع لعزيز، حين يخرس اللسان وتحرن الدموع عن التدفق، كأن حلب ليست أخت بيروت وغزة، وكأن قصف إسرائيل واجتياحها للمدن العربية مُحرّم، وهو حلال على نظام عربي يدعمه فرس وروس وميليشيات طائفية.
الصدمة كانت من سلبية العالم حيال هذا الاغتيال المعلن للمدينة، تاركًا واحدة من أعرق مدن هذا الكوكب، والشاهدة على تاريخ سكنته البشرية بصورة مستمرة، منذ ما لا يقل خمسة آلاف سنة، لمصيرها، باستثناء تغطيات إعلامية مشكورة، لم تُقنع السياسيين في العالم باتجاه التحرك، واحتجاجات منثورة هنا وهناك، بعضها في أروقة الأمم المتحدة التي أصابتها الشيخوخة، كما أصابت أيديولوجيات العالم، وتقاعدت عن أدوارها المتوقعة منها في صراعات دموية، أوضحها ما هو حاصل في سورية على مدى السنوات الست الأخيرة، مجازر يومية، وتغيير لخريطة البلاد وتركيبتها السكانية. منذ القصف الوحشي المستمر الذي بدأ على المدينة وريفها بعد التدخل الروسي في سورية قبل عام ونيف، انتظر من بعض الأطراف ردة فعل متعاطفة مع مدينتي: نخب عربية من مثقفين وفنانين وأحزاب، يسار أوروبي؛ لطالما اجتاح الشوارع ضد الحروب، وتحديدًا حزب العمال البريطاني و”تحالف أوقفوا الحرب”. لكن التعاطف المنتظر لم يحدث، تمامًا مثلما هو الأمر في مجمل الملف السوري، عندما تُرك الشعب السوري وحيدًا أمام آلة قمع عنيفة لنظام وداعميه، أثبتوا أنهم لا يترددون في تدمير أي جزء في سورية، بدل اللجوء للحوار والتفاهم مع المعارضين، ضمن مفاوضات سياسية تنتقل بالبلاد إلى مرحلة الاستقرار والعمل المؤسساتي، تأسيسًا لدولة مدنية ديمقراطية، قائمة على احترام كل المكونات.
لم يكن سقف توقعاتي، أنا وغيري، يحلم بأكثر من ارتقاء تلك النُخب لمستوى ما تقوله منظمات حقوق الإنسان في العالم، غير أن الأيديولوجيات والأفكار المسبقة أعمت كثيرًا من الأفراد والمجموعات عما يحدث في سورية، من قتل وتدمير ممنهجين، يصلان لمستوى جرائم حرب.
في نهاية آب/ أغسطس 2013، عندما جرى الحديث عن احتمال قصف واشطن وبعض الحلفاء مواقع الأسد العسكرية؛ بسبب استخدامه الكيماوي، نظم “تحالف أوقفوا الحرب”، وحزب العمال في بريطانيا، تجمّعًا أمام البرلمان، قيل أنه من أجل سورية؛ فقررنا -أنا وأصدقاء- أن ننضم للوقفة، تعبيرًا عن غضبنا من استخدام سلاح الكيماوي ضد المدنيين العزل. غير أن ما شاهدناه عند وصولنا صَدَمَنا، وقد استقبلتنا لافتات تقول “أوقفوا قصف سورية”.. وأخرى تقول “لا تقصفوا سورية”.
من بين الحشد اقتربت امرأة في خسمينياتها، تُوزّع منشورات تحمل تلك الشعارات. استوفقناها وسألناها “من المقصود بوقف القصف؟” ردّت بثقة: “الأميركان وبريطانيا.. طبعًا”. سألناها “وماذا عن قصف بشار الأسد لشعبه.. لماذا لم ترفعوا لافتات تطلب منه وقف قصف شعبه بالكيماوي والبراميل المتفجرة؟”. ردّت باستغراب الجاهل بالأخبار، على الرغم من أنها تُشارك في حملة سياسية منظمة: “الأسد يقصف شعبه بالكيماوي!”. تابعنا: “هل تعرفين لماذا كان أوباما وكاميرون يريدان قصف مواقع عسكرية تابعة للأسد؟” لم تُجب.. وبدا عليها الارتباك، فمن الواضح أنها جاءت بدماغ مغسول، لا يعرف غير أن “الإمبريالية كانت ستقصف سورية!”. عندما أخبرناها عن الهجوم الكيماوي في الغوطة قرب دمشق، بدت مشوّشة عن غايتها التي جاءت من أجلها؛ لأنها غير متابعة للأخبار، ولأن أحدًا لم يُخبرها بتلك التفاصيل داخل حزبها العتيد “المقاوم للعولمة والإمبريالية والولايات المتحدة طبعًا”، والذي ليس لديه الوقت ولا يزال، لإحصاء عدد البراميل والقذائف التي يرميها نظام الأسد، أو الطيران الروسي الذي دخل على الخط لاحقًا.
مضت المرأة بحمولتها الورقية والذهنية تشقّ طريقها بين الحشد بعيدًا عن شهادتنا؛ فهي مرتاحة أكثر مع ما أخبرها به من زملاؤها في التحالف أو في الحزب، فالانحياز للشعارات الأيديولوجية عند هاتين الجهتين، عندما يتعلق الأمر بسلامة المدنيين، أهم بكثير من الانحياز لضحايا جرائم حرب، يُقتل فيها آلاف المدنيين، طالما أنها قادرة -وحسب- على حشد عشرات الآلاف من المتظاهرين احتجاجًا على حرب بوش في العراق، بينما لا يستحق بوتين كفيل الأسد، إحراجه بحروبه واستعراضه العسكري الصارخ في وجه العالم، وعلى الأراضي السورية. لا فرقاطة بحرية وحاملة طائرات، لا قاعدة جوية في اللاذقية أو قاعدة بحرية في طرطوس، لا قصف وحشي على المدنيين، هز تساؤلًا في أرواح وعقول هؤلاء. ببساطة “لأن المعتدي ليس أميركا أو دولة غربية”. فالروس والإيرانيون يليق بهم غزو الشعوب الأخرى، واستعمارها، ومصادرة قرارها الوطني، وهو أمر مُحرّم على الغرب فحسب، وبالأخص أميركا.
لا أعتقد أن دمارًا مماثلًا حل ببلد منذ الحرب العالمية الثانية، تلقى مئات البراميل المتفجرة التي نزلت ولا تزال فوق رؤوس أهلها وحجرها، بمثل الدمار الذي حصل في سورية، وبشكل جليّ في مدينة حلب، وعلى الرغم من ذلك، اكتفت النخب التي اعتادت أن تُطلق النحيب بعد أي قصف إسرائيلي على منطقة عربية، بالصمت، الذي كشف عن مدى الانحدار الذي وصلت إليه مجموعات عدت نفسها “مدافعة عن حقوق الشعوب ومصيرها”.
لقد عرّت مأساة مدينة حلب نخبًا سياسية وثقافية في العالم أجمع، و”المدينة المغدورة” كانت المذبح الذي سقطت أمامه أيديولوجيات ونظريات تبين خواء أفكارها وبعدها الإنساني، عندما وقفت نخب الحرس القديم غربًا وشرقًا تتفرج بسلبية على مأساة شعب وبلد، مرتاحة لفكرة أن “النظام يُقاتل إرهابيين”، متعامية عن سيناريو رسمه النظام وجر أقدام كثيرين إليه، مسقِطة من ذاكرتها شهورًا مرت والحراك الشعبي في الشوارع، يتظاهر ويغني ويرقص ويرسم ويرفع شعارات، بأجمل ما يمكن أن يتخيل المرء من إبداع، حراك مدني لطالما ادعت تلك النخب أنها تدافع عن حراك مثله. لكن وعلى العكس من ذلك، تبنت -منذ الأيام الأولى- خطاب النظام ببلادة ذهنية لم يشهد التاريخ المعاصر شبيهًا لها بين مواقف النخب.
أخبرني صديق سوري أنه التقى، أخيرًا، بقيادي بريطاني، قريب من اليسار المتطرف في بريطانيا، ووجه له تساؤلًا: “أنت من الجيل الذي وقف مع صراع مسلح في أميركا الجنوبية وفي إسبانيا، ورفعتم شعارات ضد الفاشية، فلماذا تقفون الآن مع فاشية متعددة الجنسيات في سورية؟”، وكان جواب القيادي المخضرم “آنذاك، كانت هناك قضية، أما الآن فلا نعرف ما هي القضية”!
صادم هو هذا الكلام، إذ ربما كانت المعارضة السورية مُقصّرة في توصيل قضيتها للعالم بسبب تشتتها، لكن القيادي اليساري البريطاني الذي يتوقع منه متابعة التقارير السياسية لخارجية بلاده، والإعلامية، أو الأفلام الوثائقية حول سورية، تغافل عنها، واعتمد خطاب النظام والخطاب الروسي خلفية لما يجري هناك. كذلك لم ير القيادي البريطاني في الجانب الإنساني مبررًا كافيًا لاتخاذ موقف حازم من نظام مدعوم بعنف دولتين، هما روسيا وإيران وفصائل شيعية طائفية من أنحاء العالم، بدون أن يشترط وجود “قضية” مسبقة للضحايا؟
في تشرين أول/ أكتوبر الماضي دعا وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، مناهضي الحروب إلى تنظيم احتجاج أمام السفارة الروسية في لندن، وشدد -خلال جلسة طارئة للبرلمان لمناقشة القصف المتواصل على مدينة حلب- على أن “جماعات مناهضة الحروب لا تعبّر عن غضب كاف من النزاع في تلك المدينة”. وكان جونسون بذلك يغمز في قناة زعيم حزب العمال، جيرمي كوربن، الذي كان هو من أسس “تحالف أوقفوا الحرب” احتجاجًا على الحرب في أفغانستان والعراق.
في الجلسة ذاتها، دعت النائبة العمالية، آن كلويد (المتمردة على موقف حزبها)، إلى مظاهرات مليونية أمام السفارات الروسية في العالم أجمع. غير أن جيرمي كوربن¬¬¬¬¬ رد، بأن “العالم يتناسي تجاوزات التحالف الدولي الذي يقصف داعش، وينتج عن قصفه ضحايا مدنيين”!
في هذا الرد كوربن هو الذي تناسى أن قصف حلب من الروس مقصود وممنهج، ويستهدف المدنيين وكل المؤسسات التي تحافظ على استمرار الحياة، المستشفيات والمدارس والأسواق، لإجبارهم على النزوح. لقد انحاز رئيس حزب العمال، فقط، لإيديولوجيته المناهضة لأميركا، مستذكرًا، ربما، أن بوتين، رمز للحرس القديم في موسكو الشيوعية، ملهمته هو ورفاقه قبل عقود، على الرغم من أنها تغيرت، ولم يتغير هو ورفاقه.
أما النُخب العربية التي خذلت السوريين، من منطلق قومي أو يساري أو علماني متطرف، فقد اشتغلت من منطلق “النكاية”، مرة لأن المتظاهرين خرجوا من المساجد أيام الجمع، ومرة بترديد خطاب النظام حول لصق تهمة الإرهاب بالحراك. لا شيء حرّك مشاعر وضمير هذه المجموعات، التي كما رفيقتها في العالم، أسقطت الجانب الإنساني والموقف الأخلاقي لحساب الأيديولوجي والشعاراتي، بل إن بعضهم اشتغل على التشكيك بالصور والأخبار، محوّلّا مأساة وشعب وبلد، إلى “عالم افتراضي” غير مثبتة بالدليل القاطع.
قبل أيام قليلة، قال لي شيوعي عراقي، حاججته بأفعال النظام، بأن “أشرطة الفيديو التي تنشرها المعارضة مفبركة في قناة الجزيرة”! ويقول آخر، سوري هذه المرة، إن وجود إيران مُبرّر لدعم حكومة على وشك الانهيار، وأنهم لن يلبثوا طويلًا”، متعاميًا عن تصريحات كانت في اليوم نفسه، تحدثت عن طموح بإنشاء قاعدة بحرية في المتوسط (أي المياه الإقليمية السورية).
يا للمأساة السورية، الاختبار الذي فضح كم كانت نظريات القرن العشرين مجرد “جعجعة”، وكم تحدثت بشعارات تبين هشاشتها أمام عمق مأساة كبرى في القرن الحادي والعشرين، بعد أن فشلت تلك التنظيرات في ترجمة معنى “الكرامة” الإنسانية” في فعل أمني عسكري ضد الإنسانية، وفي مقتلة مثل المقتلة السورية.
تمر الصور والفيديوهات المسربة من داخل سورية منذ سنوات، والنخب مشغولة في الاصطفاف وراء العسكر والأنظمة الأمنية، ولا عجب أن تصل إلى هذه النتيجة، بعد أن تبيّن أن لا مشروع راسخًا لديها، تواجه به الأزمات الوطنية والإقليمية؛ فقد نشأت على فكرة محاربة ومقاومة إسرائيل والإمبريالية، وعندما تغيرت التسميات لم يتغير الأعداء. مصطلحاتها ميتة، وأيديولوجياتها سقطت أمام أول اختبار فعلي منذ انتهاء الحرب الباردة.
قبل أيام، روت لي زميلة صحافية شابة تفاصيل كابوس أقلق نومها في الليلة السابقة، فقد وجدت نفسها محل ملاحقة الأسد وأجهزته، كونها تنشر تقارير وتعمل في صحيفة مناهضة لنظامه.
انتهى سرد الكابوس الممزوج برجفة خفيفة في صوت الزميلة، إلى مزحة وكلام عن الأحلام المدججة بالطغاة والرعب في عالمنا العربي. غير أني بيني وبين نفسي، تساءلت: ما الذي يجعل صحافية شابة غير سورية، مُدركة لخطورة هذا النظام ووحشيته، في وعيها ومنامها، بينما لم يستوعب آخرون، مخضرمون في السياسة والتجارب الحياتية، غير أن النظام يحارب الإرهاب والمتطرفين! لماذا لا يرون ما تراه هذه الفتاة التي نشأت في عصر ما بعد الأيديولوجيات؟
إنه سؤال يحيل إلى الفقرات السابقة، ومن الأفضل لكاتبة هذا المقال أن تصمت عند هذه النقطة، وتترك لدارسي المجتمعات والتاريخ توثيق مظاهر موت الأيديولوجيات وتبّعتها، على حساب أرواح ودماء السوريين وأراضيهم التي يعاد توزيع السكان فيها، ضمن تهجير وتغيير ديموغرافي، لا يخدم إلا المستفيدين -الآن- من دعم النظام.
جيرون - غالية قباني
↧