يقول ماركس في رسالته الشهيرة لرفيقه "سيغفريد ميير" أنه إذا أراد عمال انكلترا التحرر، فإن عليهم أن يضمنوا نفس الحرية لنظرائهم عمال أيرلندا، لأن معركة نيل الحقوق هي معركة جماعية، يجب أن تطال الجميع، وهكذا فإن أراد الشعب العربي نيل حقوقه وحريته والعيش بكرامة في أوطان تكون ملكا للجميع، عليهم الاعتراف بحقوق الآخرين واحترام ثقافاتهم وخصوصياتهم، من بين هؤلاء الشعب الكردي.
من المعلوم أن شعبا من شعوب هذه الأرض، لم يتعرض لمظلمة تاريخية مثلما تعرض لها الشعب الفلسطيني، لكن ثبت أن الشعب السوري قد تعرّض لأبشع مظلومية في التاريخ، أيضا الشعب الكردي بدوره تعرّض لمثل هذه المظلمة، لكن بشكل مختلف، من عدم الاعتراف بهم، وحرمانهم من حقوقهم الثقافية والسياسية، يصل العدد الكلي للأكراد في العالم اليوم إلى أكثر من 30 مليون كردي، منهم 10 ملايين في تركيا، و 7.5 مليون في إيران، و 6.5 مليون في العراق، و 2.5 مليون كردي في سورية، وهناك عدد في لبنان وغيره من دول العالم.
يختصر الكاتب الكردي "نزار آغري" حكاية الوجع الكردي في عموم المنطقة، بقوله: إن الأكراد حين يتلفتون حولهم لا يجدون من هو على استعداد لتحمل تبعات أمرهم، وأن يرى فيهم أعضاء كاملي الحقوق في النطاق الاجتماعي المرسوم، إن كل شيء يشعرهم بأنهم غرباء في موطنهم.
في إحصاء سكاني سوري أجري عام 1962 بعد الانفصال عن مصر، حرم أكثر من سبعين ألف كردي من الجنسية السورية، تم الإحصاء بطريقة تعسفية، إلى درجة أن الأخوة من عائلة واحدة منهم من حصل على الجنسية ومنهم من حرم منها، حتى قارب عدد الذين حرموا من الجنسية السورية ٢٠٪ من الأكراد السوريين، ومع مرور الزمن وتضاعف أعداد الولادات، زاد عدد الأكراد المجرّدين من الجنسية، وفقا لبعض التقديرات عن 300 ألف نسمة.
ومع مجيء البعث للسلطة في آذار عام 1963 ومجيء الأسد الأب عام 1970 زادت معها المعاناة الكردية، نتيجة لازدياد أعدادهم من جهة، والاستمرار بحرمانهم من حقوقهم من جهة أخرى، خصوصا مع الخطة التي وضعتها السلطة مع بداية السبعينات، المتمثلة بمشروع الحزام العربي، الذي هدف بالدرجة الأولى لتفريغ الشريط الحدودي مع تركيا بعمق 10 إلى 15 كم من سكانه الأكراد الأصليين، وتوطين أسر عربية بدلا عنهم، لما من شأنه قطع أواصر الارتباط الجغرافي بينهم وبين أقربائهم وامتداداتهم القومية خارج الحدود السورية.
ثم جاء تنفيذ سد الفرات في محافظة الرقة، فرصة لإعادة توزيع الأراضي الزراعية، عندما قامت السلطات بالاستيلاء على الأراضي الكردية بذريعة إقامة المزارع النموذجية، مما نتج عن ذلك توطين أكثر من أربعة آلاف أسرة عربية في الشريط الحدودي مع تركيا، وتوزيع أكثر من 700 ألف دونم من الأراضي المصادرة منهم، رافق ذلك سياسة ممنهجة تمثّلت بالعمل على طمس الهوية الكردية وصهر الأكراد في بوتقة القومية العربية، ترافق ذلك مع قمع الحركات السياسية الكردية، واعتقال نشطائها، وتغيير الأسماء الكردية التاريخية لمئات القرى والبلدات والتلال والمواقع، واستبدالها بأسماء عربية، وحرمان الأكراد من التحدث بلغتهم الخاصة ومنع الموسيقى والأغاني الكردية، على حد قول المحامي أكرم البني.
من الجدير بذكره هنا أن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أولى الأكراد السوريين إبان عهد الوحدة، اهتماما، بمنحهم كل امتيازات المواطنة في دولة الوحدة، كالحق بالتنقل عبر الحدود، وحق التمتع بقوانين الإصلاح الزراعي في مناطقهم، وغيرها من حقوق، إلا أن الانفصاليون (البعثيون) قاموا بمعاقبتهم نتيجة تضامنهم مع عبد الناصر، بأن شنوا حملة قاسية عليهم في الجزيرة السورية، ومارسوا سياسة القسوة لدفعهم إلى الهجرة وترك أراضيهم، التي أعيد توزيعها على العرب، تتوجت هذه العقوبات بالإحصاء الظالم الذي تمت الإشارة إليه.
أما في العراق والذي يمثل فيه الأكراد نسبة أكثر من 15% من عدد السكان، فلم يكن الحال أفضل، على الرغم من أن الدستور العراقي الذي أعقب ثورة 1958 قد اعترف بالقومية الكردية، إلا أن الحكومة المركزية رفضت خطة بارزاني للحكم الذاتي، فأعلن حزبه القتال المسلح عام 1961 لكن العراقيون عادوا في عام 1970 وعرضوا على الأكراد اتفاقا يتضمن إنهاء القتال، ومنحهم منطقة حكم ذاتي، لكن الاتفاق انهار واستؤنف القتال.
في الوقت نفسه خطت سلطة البعث العراقي على خطى مثيلتها السورية، عندما قامت بنهاية السبعينات بحملة التوطين العربي ببعض المناطق الكردية بهدف تغيير التركيبية السكانية، خاصة حول مدينة كركوك الغنية بالنفط.، بالمقابل قامت بإعادة توطين الأكراد في بعض المناطق الأخرى قسرا، أخذ هذا المشروع بالتوسع، أثناء الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات عند قيام الأكراد بدعم إيران ، فأطلق حينها صدام حسين حملة انتقامية ضدهم، بالهجوم بالغازات السامة على حلبجة، والتي راح ضحيتها ما يقارب الخمسة آلاف كردي، في عام 1991 وبعد أن قامت السلطات العراقية بقمع حركتهم التمردية، هاجر على أثره حوالي مليون ونصف كردي عراقي إلى تركيا وإيران.
لا شيء في حياة الأمم أثمن من قيمة العدالة والحرية، الأولى تعتبر سبيلا للتعايش، فيما الثانية تعني الطريق للمواطنة الحقة، والمشاركة في الأعباء الوطنية العامة، أليس مفارقة غريبة، أن يكون لمائة ألف كردي في لبنان نائبا في البرلمان، ولنحو 200 ألف أرمني مقاعد نيابية، ومدارس وأحزاب؟ بينما في العراق وسورية كان لـما يزيد عن 9 ملايين كردي، كيمياء حلبجة وحروب الجبال، وتجريد أكراد سوريا من هويّاتهم، ومنعهم من البحث في تراثهم وممارسة أي نشاط ثقافي خاص بهم، والمنع من استخدام لغتهم، بل ملاحقة من يتجرأ على القيام بتعليمها، تذكر الروايات مقتل أستاذ في القامشلي كان يُدرِّس اللغة الكردية، فضلا عن حرمانهم من غالبية حقوقهم.
بكتابه "حدود القومية العربية" لنديم بيطار، الذي حاول العراقيون اغتياله بالسكاكين والأحجار والرصاص، لمنع إلقاء المحاضرة التي دعي لإلقائها في دار جمعية العلوم السياسية ببغداد في حزيران/ يونيو 1968 يخلص فيه البيطار إلى أن الهوية القومية هي هوية نسبية وتاريخية، يحققها شعب ما عن طريق تفاعله أو علاقته الديالكتيكية مع التاريخ، ولا يرثها من "جوهر" متأصل فيه، إنها استجابة تتحول مع تحول أوضاعنا الاجتماعية التاريخية، ويرى بيطار "أن الكيفية التي نحدد بها هويتنا، تكون مرتكز أساسي في النضال لبناء حياة جديدة وإنسان جديد، وأن هيمنة التحديد الاعتباطي لمفهوم الهوية، لهو من أكبر الأخطار التي تدمر المستقبل.
مشكلة الأنظمة القومية العربية الرسمية، التي صادرت المشروع العربي الكبير، لحساب مشاريعها الخاصة، أنها تريد دولة بهوية قومية واحدة، أي صهر الجميع قسريا في حزب واحد ورأي واحد ولون واحد، وقائد تاريخي أبدي واحد، من ليس معنا فهو ضدنا، لا تعترف بالآخر، كل مخالف أو معارض لسياساتها مجرد عميل وخائن، لذلك تريد هوية قومية على مزاجها، تكابر هذه الأنظمة ومن يدور في فلكها من فلول القومجية، ويتعالون وينتفخون كالطواويس، حتى باتوا تماما مثلهم مثل التنظيمات الإسلامية الأصولية المتشددة، التي تعتبر وجود كل مذهب مخالف كافر، وكل رأي مغاير مرتد، وما الأقليات التي تعيش فيما بينها سوى دليل ضعف بدولتهم المنشودة، خصوصا أن القوى الاستعمارية في الماضي استخدمت بعض شخوص هذه الأقليات العرقية أو الدينية، لإحكام قبضتها الاستعمارية على المنطقة العربية.
لم يدرك هؤلاء أن القومية العربية التي يتعاركون لتحقيقها، لن تتحقق بالصراخ والتخوين ورفع الشعارات الطنانة، وإنما بالاندماج المستند إلى الاختلاف والتعدد والمشاركة، كما يقول المفكر الراحل إلياس مرقص، لأن المجتمع الذي تتحقق فيه الهوية القومية، إنما هو مجتمع التعدد والاختلاف والتناقض أو التعارض، الذي يصنع التاريخ الداخلي للأمة، والتي لا يمكن لها أن تتواجد فعليا إلا بوجود هذا الاختلاف، بين الأفراد والفئات والطبقات والشعوب والأقاليم، وفقا للأستاذ جاد الكريم الجباعي.
لم يدرك هؤلاء أنه من الخطأ القاتل الازورار عن هذه المسألة أو وضعها على الرف، باعتبار أن الزمن سيحلها، كما يقول المفكر الراحل ياسين الحافظ، وأن تأكيد علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة، والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأثير وبجدية، وبالتالي فإن مشكلة الأقوام غير العربية ينبغي أن تُحل على أساس مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي، وهذه الحلول تصبح ممكنة بقدر ما يتدمقرط المجتمع العربي.
وإلى أن يتم ذلك وفقا للحافظ، فإنه ينبغي حلها تبعاً لشروط وظروف كل حالة ملموسة بعينها، بمنح هذه الأقلية الحكم الذاتي، لأن هذه الأقوام تلعب بوعي أو بدون وعي ضد الوحدة العربية، ولعبها أحياناً حاسم ضد الوحدة العربية؛ والوحدة أثمن وأغلى من تجزئة، مبررها الوحيد الحفاظ على تعايش ظاهري وملغوم وهش، مع قوم آخر لا يهضم مطمحنا القومي العربي.
الواقع لم تكن المطالب الكردية يوما تعجيزية أو صدامية مع وسطها العربي، ولا مع السلطات الرسمية الحاكمة فيها، وإنما كانت مجرد مطالب إنسانية محقة، يقول الخبير الاستراتيجي العراقي وفيق السامرائي "أنه بعد الحرب المدمرة التي مني بها العراق بعد حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١ عندما خرجت ١٣ محافظة عراقية من أصل ١٨ خروجا تاما عن سيطرة الدولة، جاء إلى بغداد في ربيع ذلك العام مسعود البرازاني للتفاوض، بعد أن استعاد النظام السيطرة على بعض الموقف، أدهشتني أقواله التي لا تزال نبراتها عالقة في ذاكرتي، ومنها "قضيت ١٢ عاما في إيران ولا أريد ترك العراق، وإذا أعطانا الرئيس صدام ٥٪ من حقوقنا، فإننا سنوافق على الفور، وأن البرزاني لم يتطرق بكلمة واحدة عن حرب الأنفال، أو ضرب حلبجة بالأسلحة الكيماوية، ولا قصة تهجير نصف مليون كردي فيلي إلى إيران، التي استغلها سياسيا البعض بطريقة فظيعة بعد سقوط النظام".
يُقال مصائب قوم عند قوم فوائد، من يلوم الأكراد اليوم على استغلالهم لهذه المصائب التي قادنا إليها النظام الرسمي العربي؟ خصوصا أن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، وفقا لما قاله قبل قرنين من الزمان نابليون بونابرت، فبعد أن لحق بالعراق شر هزيمة، نتيجة الغزو الاميركي الى المنطقة في أعقاب حملة تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وتأمينه منطقة حظر جوي في الشمال، قام الأكراد ببناء دويلتهم الكردية، والتي تتمتع اليوم باستقلال ذاتي واستقرار أمني، أكثر بكثير من الدولة العراقية نفسها.
ومع استمرار النكبة السورية لعامها السادس على التوالي، ومثلما كان حال جغرافيا العراق، كذلك هو حال الجغرافية السورية التي يصنعها الأكراد السوريون اليوم، بات معها الكردستان السوري على الأبواب، بعد أن أطبق الأكراد قبضتهم على عدد من حواضر المنطقة الشمالية، بفضل الدعم الأمريكي الروسي والرسمي اللامحدود، وبالتالي فإن الأكراد الذين كانوا يطالبون بمنحهم الجنسية السورية، أو بعض الحقوق التي حرموا منها عبر العقود الماضية، باتوا اليوم يطالبون اليوم بالفيدرالية، وربما غدا بالدولة المستقلة.
تأخرت كثيرا السلطات السورية قبل أن تعترف بأن الأكراد شعب عريق وحضاري، والإخوة الأكراد هم جزء أساسي من النسيج العربي السوري، كما جاء على لسان الرئيس الأسد، في حين لم تكن مواقف بعض الشخصيات المعارضة أفضل حالا من ذلك، بل أخذ ينتابها النكران والتشكيك، فهيثم المالح مثلا ذهب إلى: أنه لا يوجد شعب كردي بالأساس في التاريخ، وإن الأكراد ليسوا شعباً ولا وجود لمنطقة كردية، وفقا لنواف البشير، بينما شبههم الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، برهان غليون بمقابلة مع قناة ألمانية، بمهاجري فرنسا، رافضا بالمطلق وجود كردستان في سوريا، أما موفق مصطفى السباعي فنعتهم بأقذع الأوصاف.
المصدر: أول مرة
↧