تسود الطرافة أغلب تعليقات السوريين على عبارة طالما كررها مؤيدو النظام، ومعهم شريحة واسعة من "الصامتين" تقول: "كنا عايشين"، ككناية عن الحياة التي كان يعيشها السوريون قبل الثورة، إذ غالباً ما يتم دحض الفكرة التي تنطوي عليها هاتان الكلمتان من خلال استدعاء المعلقين عليها أسوأ المواقف التي كان يعيشها المواطن السوري بسبب خضوعه لسلطة نظام، أدار عملية تأخير البلاد والعباد عن مسار التطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي، خلال العقود السابقة، حتى باتت سوريا واحدة من البلدان المتخلفة التي تعاني أزمات شتى على كافة الصعد.
كانت شعارات الثورة السورية ومنذ البداية تقوم على مفردات تصنع أرضية أولى من أجل أن يقف السوري عليها لينطلق معيداً ارتباطه بعجلة التقدم الإنساني، مع الافتراض المسبق بأن مسألة "العيش" أو "حق الحياة" أمرٌ غير قابل للمناقشة، فهي من البديهيات التي لا يمكن العودة إليها، ولكن هذا الحق ليس كافياً بذاته من أجل أن يعيش السوري دوره المفترض في سياق تطوير حياته، بل إن إكساب الحياة معنى الفعالية والمساهمة يعني أن تقترن حياة سكان هذا البلد بالحرية وبالكرامة والعدالة، وقبلها بالمساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات.
وتبعاً للتأمل في منظومة شعارات الثورة وكذلك في العبارة التي تنطوي على لوم واتهام يوجههما المؤيديون والصامتون للثائرين فحواهما يقول بأن هؤلاء كانوا السبب في فقدان المتضررين للحياة التي كانوا يعيشونها قبل الثورة، يمكن رؤية مساحة واسعة من الفعل التدميري لمقومات الحياة الطبيعية في سوريا، يتم الصمت عمن قام به، وعمن ساهم فيه، ومن دعمه، حتى تحولت الحياة في طول البلاد وعرضها إلى جحيم مطبق.
لقد حسم النظام ومنذ البداية خياراته تجاه رغبة السوريين بالتغيير، فمارس على الثائرين سياسة تقوم على ثلاث خيارات، فإما القتل أو السجن أو النفي خارج البلاد، كما وضع خططه الدموية لمعاقبة المناطق الثائرة، ونفذها بغض النظر عن وجود فئات لم تصطف إلى جانب الثورة تعيش فيها، وأيضاً كان لسياسة الاعتقال العشوائي، أثرها الكبير على جعل الكثير من السوريين الصامتين يقررون مغادرة البلاد، وكذلك أدى خيار الحل العسكري إلى فقدانه السيطرة على مناطق كبيرة وشاسعة، ما عطل الحياة الاقتصادية، بالإضافة إلى استنزاف موارد الدولة التي وضعت كلها في خدمة سياساته.
وقد انعكس كل هذا على الوضع العام للسوريين بغض النظر عن موقفهم من الثورة، غير أن أصحاب نظرية "كنا عايشين" تجاهلوا دائماً حقيقة أن كل حلول النظام بنيت على سلب حق الحياة من أولئك الذين جاهروا بصوتهم ضده، بعد أن قام بتأطيرهم إعلامياً على أنهم إرهابيون، فصار المشهد السوري كله قائماً على ترخيص القتل، من قبل جيشه وقواه الأمنية وميليشياته المحلية.
وبات على السوري أن يضع أمام عينيه استراتيجية تقوم على المحاولة الدائمة للحفاظ على الحياة، إذ أن عليه السعي لأن ينجو من حواجز النظام والميليشيات التي كانت تمارس القتل بموجب انتماء المقتول إلى المناطق الثائرة، أو الاعتقال الذي يفضي إلى الموت في الأقبية والسجون، بالإضافة إلى ذلك، كان عليه أن يحاول الفرار من المناطق التي يستهدفها القصف بشكل عشوائي، أو يحاول الصمود ضد التجويع في المناطق المحاصرة، وفي النهاية كان عليه أن يهرب من كل البلد في سبيل الحصول على ملاذ آمن، حتى وإن حمل اللجوء إليه عذابات جديدة، كان بعضها هو احتمال الموت في البحار، وعلى طرقات البلاد البعيدة..
يعرف السوريون جميعاً أنهم تعرضوا لأهوال وفجائع تقارب بحجمها أحداث حربين عالميتين، وهم يعرفون أيضاً أن من فتك بمفهوم الحياة الإنسانية الطبيعية لم يعودوا مشخصين بالنظام المستبد فقط، بل أمسوا متعددي الوجوه، فإلى جانب الطغمة التي قتلهم وسجنتهم واستجلبت قوى طائفية ومرتزقة للفتك بهم، باتوا يواجهون التنظيمات المتطرفة التي تقاتل النظام لحساب أجندتها المختلفة عن أجندة الثورة، وفي الوقت نفسه يواجه السوريون قباحة العالم كله الذي استنكف عن دعم خيارهم في الثورة لأجل الحرية والكرامة، ثم عاد ليتدخل بحجة محاربة الإرهاب، فبات يقتل فيهم ليل نهار، وكلما نال الإرهاب من بلد ما، جاءت طائراته لتصفي حسابها مع داعش وغيرها عبر إراقة دماء الفقراء الذين تحاصرهم الحروب، ويحيط بهم حملة السلاح، وتصدهم الحدود المغلقة في وجوههم.
كما يعرف السوريون ولاسيما منهم بعض هؤلاء الذين يصرون على أنهم "كانوا عايشين" أنهم كانوا كذلك في الحد الأدنى لسلم الحياة الإنسانية، وهم إذ يسلمون بأن هذا بذاته هو أهم الأسباب التي تدفع بالبشر نحو طلب التغيير، من أجل الرقي بالحياة، فإنهم يدركون بأن الاستمرار دون هذه العتبة سيجعل الإنسان يتساوى مع كائنات خلقت بلا تفكير، وتكتفي فقط بمجرد العيش..!
علي سفر
↧