أظهرت الخلافات بين روسيا وإيران حول حلب، والاتفاق الذي حاولت موسكو تطبيقه في المدينة، أن التحالف بين البلدين في سورية فرضته ظروف إقليمية ودولية، وأن العلاقة بينهما قائمة على تحالف مصالح هش، كانت مدينة حلب المحك الأبرز له، إذ سرعان ما طفا خلاف على السطح عندما شعرت طهران أن موسكو بدأت بعقد اتفاقيات من وراء ظهرها تُخالف استراتيجيتها في سورية.
وتتباين الرؤى الروسية الإيرانية حول مستقبل سورية، إذ يحاول كل منهما تعزيز نفوذه وحضوره وسيطرته على القرار بعد نهاية الحرب السورية، ومع بدء ملامح مرحلة تقاسم تركة النظام، خرج هذا الخلاف إلى العلن. وعطّلت طهران، أمس الأربعاء من خلال مليشيات تشكّل أذرعاً عسكرية لها في سورية، اتفاقاً تركياً روسياً في مدينة حلب، يتيح للمدنيين ومقاتلي المعارضة الخروج من الأحياء التي لا تزال تحت سيطرة الأخيرة في حلب، ثاني أهم المدن السورية وأكبرها في شمالي البلاد. ووضعت هذه المليشيات شروطاً وصفتها مصادر في فصائل المعارضة بـ"الطائفية" من أجل إتمام الاتفاق، إذ ربطت تنفيذه بالسماح بخروج ما قالت إنهم مصابون في بلدتي كفريا والفوعة بالقرب من مدينة إدلب (شمال غرب سورية) والمحاصرتين من المعارضة.
ومن الواضح أن الاتفاق الروسي التركي فاجأ طهران التي تسعى مع حليفها بشار الأسد إلى القضاء على من بقي من مقاتلي المعارضة في حلب لترسيخ نصر عسكري وسياسي وإعلامي يُثبّت أقدام إيران في شمال سورية، ويتيح لها التحوّل إلى لاعب إقليمي لا غنى عنه في أي تسويات مقبلة على مستقبل سورية والعراق معاً. وسعت إيران إلى إبعاد تركيا بالكامل عن حلب، لكن اتفاق الثلاثاء أعاد أنقرة إلى "اللعبة" وهو ما تسبب بحنق إيراني عبّرت عنه بتعطيل الاتفاق، ووضع عثرات أمامه من شأنها عرقلته.
وفي هذا الصدد، رأى سفير الائتلاف الوطني السوري في العاصمة الإيطالية روما، بسام العمادي، أن الخلاف الروسي الإيراني حول سورية "موجود منذ البداية"، مبرراً ذلك بأن "أهداف الطرفين في سورية مختلفة، ولكن حاجة كل منهما للآخر هي التي تجعلهما يستمران في تحالفهما مع بشار الأسد". وأوضح العمادي، وهو سفير سابق لسورية في السويد، أن روسيا "لا يهمها بقاء بشار الأسد في السلطة، بقدر ما يهمها بقاء النظام"، مضيفاً: "الروس لا يهمهم تقسيم سورية".
وأعرب العمادي في حديث لـ"العربي الجديد" عن قناعته بأن النظام الإيراني "يريد سورية كلها له كي لا ينقطع الطريق من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط"، مضيفاً: "الإيرانيون يريدون لبشار الأسد البقاء في السلطة على ما يعطيهم إياه لأن غيره لن يتمكن من إبقاء المنظومة الحالية في النظام، وبالتالي سيضيع عليهم كثير مما حصلوا عليه من وراء حمايتهم للأسد". وأردف العمادي: "أما الروس فيضمنون كل ما لهم في سورية الآن إذا بقي النظام".
ورجح العمادي اتساع الهوّة أكثر بين موسكو وطهران "لأن الأمور وصلت إلى مرحلة تقاسم الغنائم بالنسبة للطرفين"، مشيراً إلى أنهم "يظنون أن الأمر انتهى بسقوط حلب، أو هكذا يأملون". وعن موقع الأتراك مما يحدث في حلب، رأى العمادي أن هناك تفاهمات أبرمت تتيح لهم السيطرة على مدينة الباب شمال شرقي حلب.
وسبق التدخّل العسكري الإيراني المباشر في سورية مثيله الروسي بعدة سنوات، إذ بدأت تظهر مليشيات مدعومة من الحرس الثوري الإيراني على الساحة السورية في بدايات عام 2012، وطرقت أسماع السوريين أنباء عن مليشيا "أبو الفضل العباس" في جنوبي دمشق تحت ذريعة حماية مقام السيدة زينب. وارتكبت هذه المليشيات مجازر وعمليات تهجير واسعة في تلك المنطقة، ومحيطها. ثم بدأت إيران ترسل تباعاً مليشيات لمساندة قوات النظام التي كانت تترنح، خصوصاً في ربيع عام 2013 حين أعلن حزب الله بشكل رسمي انخراطه في الصراع إلى جانب النظام.
ولكن المليشيات لم تستطع وقف زحف قوات المعارضة، خصوصاً في شمال سورية وجنوبها، ولم تجد طهران بُداً من إرسال قوات نظامية من الحرس الثوري، وتعزيز المليشيات، ودفع أخرى منها حركة "النجباء"، و"فاطميون"، و"زينبيون"، وخلق مليشيات محلية من الشبيحة، حتى بات القرار العسكري بيد قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، وبيد قياديين من حزب الله، وتحوّل جيش النظام إلى مليشيا ملحقة بهم.
في أواخر سبتمبر/أيلول من العام الماضي، أعلن الروس تدخّلهم العسكري المباشر إلى جانب النظام، خصوصاً بعد أن فشل الإيرانيون لوحدهم في حسم الصراع، فتبدّلت معطيات المشهد السوري برمته، وبات من الواضح أن النفوذ الإيراني سيشهد انحساراً أمام نفوذ روسي يتنامى مع بدء وزارة الدفاع الروسية إنشاء قواعد عسكرية في الساحل السوري بناء على اتفاق مع نظام الأسد منح موسكو صلاحيات مطلقة في سورية.
وقطعت إيران أشواطاً في عمليات تهجير وتغيير ديمغرافي واسعة النطاق في سورية، كي يتسنى لها تبديل التركيبة السكانية والطائفية للبلاد التي يشكّل السنّة غالبيتها. في المقابل، رسّخ الروس نفوذهم في سورية من خلال إنشاء قواعد عسكرية في شرقي المتوسط، وفي مناطق جغرافية أخرى، وباتت لهم اليد الطولى في البلاد، وتحوّل الأسد إلى مجرد واجهة لصراع دولي إقليمي مسرحه وغايته سورية لما يشكّل موقعها من أهمية لجميع الأطراف. وكانت مواقع تسيطر عليها إيران في جنوب وشمال حلب، قد تعرضت منذ بعض الوقت لغارات جوية مجهولة، رجّح مراقبون أن تكون روسية، غايتها توجيه رسائل للإيرانيين لخفض سقف أطماعهم في سورية.
من جهته، رجح المعارض السوري ورئيس مركز "كاوا" للدراسات، صلاح بدر الدين، وجود اختلافات إيرانية-روسية حول مستقبل سورية ومصير نظام الأسد، والمسائل الإقليمية وتركيا، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد": "لكن لا أعتقد بوجود أي خلاف بين الطرفين عندما يتعلق الأمر بتدمير حلب وإبادة أهلها وإذلال مقاتلي المعارضة، وتثبيت دعائم حكم الأسد وتحويل معركة حلب إلى انتصار مزعوم لمصلحته". وتابع بدر الدين بالقول: "لقد اختبرنا نظرية وجود خلاف مزعوم أيضاً بين روسيا من جهة، وبين إدارة باراك أوباما من جهة أخرى حول حلب والقضية السورية عامة، ولكن تبيّن أن الطرفين ينسقان بشكل مدروس ودقيق"، مشيراً إلى أن ما حصل في حلب، وما سبقه من إعلانات وتصريحات أميركية دليل على ذلك.
ورأى بدر الدين أن "المعارضة السورية، وخصوصاً الائتلاف الوطني، راهنت بسذاجة على الوعود الأميركية الكاذبة، وعلى وجود تناقضات مزعومة مع الروس، وعلى خلافات روسية-إيرانية حول حلب". ودعا "الثوار السوريين بكل طوائفهم، ومكوناتهم القومية، ومشاربهم الفكرية، والمثقفين إلى التواصل في هذه الظروف العصيبة للبحث الجاد والعملي لعقد المؤتمر الوطني السوري"، معرباً عن اعتقاده أن هذا المؤتمر "سبيل وحيد للخروج من المأزق الراهن، وإعادة بناء وتنظيم الثورة عبر برنامج سياسي واقعي، ومجلس سياسي-عسكري، ونهج يرتقي إلى درجات خطورة الوضع، والاستفادة من دروس الانتكاسة العسكرية في حلب"، وفق قوله.
المصدر: العربي الجديد - محمد أمين
↧