العبء الانساني والاخلاقي ثقيل، وهو لا يجيز القفز الى السياسة او حتى الامن: كبرى مدن سوريا تدخل التاريخ، مرة أخرى. ها هي تشهد الآن واحدة من اكبر المذابح وأضخم عمليات التهجير في الحرب السورية المستمرة منذ ما يقرب من ستة اعوام. عمليات رفع الجثث من المباني والشوارع ما زالت مستمرة. الاعدامات والاعتقالات متواصلة. معظم الجرحى والمصابين لم يصلوا الى المشافي المقصودة. ولم يبلغ جميع المهجرين وجهتهم النهائية. أما المفقودون والمخطوفون فان مصيرهم متروك للمجهول.
لا أحد يملك أعداداً نهائية دقيقة حتى الان. الأرقام الاولية تشير الى ما يزيد على 1800 قتيل ونحو 7 آلاف جريح وما يزيد على 18 الف مفقود او مخطوف، واكثر من 120 الف مهجر أغلبهم من النساء والاطفال والكهول. هي حصيلة بشرية فادحة، وفي فترة زمنية قياسية لم تتعد الاسبوع الواحد، ما يضع حلب على رأس قائمة المدن السورية المنكوبة، ويحيلها الى رمز حقيقي يستخدم من جميع المتحاربين للدلالة على الحرب ودروسها.
الاستنتاجات متعددة، ومتسرعة. هي لا تقرأ ذلك البعد الانساني ولا تتوقف عنده طويلاً، ولا تعنى بتحويله الى قضية قائمة بذاتها. الجميع يفترض سلفاً ان الكارثة التي حلت بما يقرب من ربع مليون إنسان هي من طبائع الحرب وأقدارها، التي لا ترد، ولا تفتح على الاقل النقاش حول كيفية إغاثة تلك الكتلة البشرية، ودرء المزيد من الاخطار عنها.
حلب اليوم، هي بمرتبة حماة العام 1982. المقارنة جائزة. مع ان ما خفي من المذبحة الاولى، كان علنياً ومباحاً ومباشراً في المذبحة الراهنة. الكلفة البشرية الاجمالية في المدينتين يمكن ان تصبح متساوية. لكن الظرف السياسي يحول دون الاعلان ان النتيجة ستكون واحدة. ليست نهاية ثورة، ولا إستعادة شرعية نظام. الامر أكثر تعقيداً.. وإن كانت التفاصيل متشابهة الى حد بعيد. في الحالتين، في المدينتين، ثمة ما يؤكد بان النظام حصل على تفويض عربي ودولي واسع النطاق لتصفية معارضيه الاسلاميين من دون النظر بالخسائر الانسانية الفادحة ومن دون التوقف عند الاضرار المادية الهائلة.
الثمن السياسي محدود جداً بالمقارنة بين هول المذبحتين. نسبة المطلوبين من جانب النظام هي نفسها تقريباً. 300 مقاتل من النصرة، كانوا ذريعة تدمير حلب، مثلما كان نحو 200 مقاتل لا أكثر من طليعة الاخوان المسلمين حجة تدمير حماة. الاصوات المعارضة لمذبحة الثمانينات كانت أخف بكثير من الاصوات التي تسمع اليوم إحتجاجاً على مذبحة حلب..التي لم تصل الى حد نزع المزيد من الشرعية او فرض المزيد من العقوبات على النظام، بل ان بعضها ينزع سلفا الغطاء عن مدينة إدلب، عنوان المذبحة التالية.
اللحظة التاريخية التي سجلها الرئيس بشار الاسد في أعقاب سيطرته على شرق حلب، تتصل بهذا السياق تحديداً. حماة في الذاكرة، وإدلب في مرمى النظر، ومعها الجيوب المحيطة بدمشق، وربما أيضاً بقية المواقع المعارضة المنتشرة ما بين العاصمة وخط الحدود الجنوبي. لكنها لحظة تاريخية ايضا بالنسبة الى المعارضة المسلحة التي كانت ولا تزال تكمل معركة ممتدة من السبعينات وحتى اليوم، تهدأ حيناً وتعنف أحياناً.. برغم ان أحداً من المعارضين وأنصارهم لم يكن يتوقع ان تدخل روسيا الحرب بما يزيد على مئتي طائرة حربية وعشرات السفن الحربية وقواعد صواريخ عابرة للقارات، وان تنزل إيران على الارض بما يزيد على 40 الف مقاتل إيراني ولبناني وعراقي، دفاعاً عن النظام.
الفارق الجوهري الوحيد هو ان مستقبل الحرب لم يعد يتحدد في دمشق كما في ثمانينات القرن الماضي. معركة حلب هي التي أملت الدعوة العاجلة الى الاجتماع الثلاثي الحاسم المقرر في موسكو في 27 كانون الاول ديسمبر الحالي بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران، لدراسة النتائج وإستخلاص العبر وتحديد الخطوات التالية. لم يكن هناك من داعٍ لاشراك النظام السوري في ذلك الاجتماع، ولم يكن هناك من مبرر لدعوة أميركا او أوروبا، او أي دولة عربية، ولو بصفة مراقبين!
هذه الخطوة وحدها، تزيد العبء الانساني، وتعمق الهوة بين معركة حلب وبين قراءاتها المختلفة الصادرة عن النظام وعن المعارضة على حد سواء، والتي تغفل الحاجة الاخلاقية لإحصاء القتلى والجرحى والمفقودين والمهجرين.
ساطع نور الدين: المدن
↧