يتفق المتابعون عموماً على أن ما يجري في مدينة حلب من متاعب يشكل واحدة من أكبر الأزمات الأخلاقية في زماننا. تحتضن المدينة بعضاً من الكنائس المسيحية الجليلة والتي يعود تاريخها إلى أولى سنوات الدين المسيحي، ولذلك ربما يتوقع المرء أنه سيكون في جعبة القادة المسيحيين في العالم الكثير ليقولوه حول ما يجري من أحداث في حلب خصوصاً وسوريا عموما.
كانت ردة فعل المسيحية العالمية تجاه الوضع الدرامي المتكشّف في شمال سوريا، مكبوتة ومتناقضة في الواقع، ويرجع ذلك لأسباب جيدة، لطالما كان زعماء الكنائس السورية المحلية يرون في الرئيس "بشار الأسد" أنه حام لهم، وتعمق شعورهم أن الأسد هو الضامن الوحيد لحياتهم، لا سيما مع استقطاب الصراع للمقاتلين المتطرفين من الطائفة السنية المعادين بشدة لجميع المذاهب الأخرى من جهة، وقوات النظام السوري المدعومة من المليشيات الشيعية وسلاح الجو الروسي من جهة أخرى. وفي هذا الوضع، يبدو أن التحالف الأخير هو وحده القادر على منح الكنائس المسيحية الفرصة لإطالة أمد وجودها غير المستقر.
قد يقول الكثيرون إن الأسد هو المسؤول عن هذا الاستقطاب، بيد أن حياة أسقف على خط إحدى الجبهات في سوريا لهي أهم من كل التحليل السياسي.
جسّد الوضع في حلب -والذي كان قائماً حتى قبل بضعة أسابيع- تلك المعضلة، حيث كانت جميع الكنائس التي لا تزال تعمل في القسم الغربي من المدينة والذي يخضع لسيطرة النظام، ولذلك فقد كانت في مرمى قذائف الثوار وليس الصواريخ الروسية. ومع فرض الجماعات المرتبطة بالقاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، هيمنتها على المعسكر المناهض للحكومة، رأى الزعماء المسيحيون المحليون أن الحفاظ على حياتهم يعتمد على انتصار الأسد. كان سحق قوات المعارضة في شرق حلب سبباً يجعل عيد الميلاد أكثر سعادة من وجهة نظرهم .
ومثلما هو الحال في العراق، تحتضن سورية طيفاً من الطوائف المسيحية التي تميزت بالمناصب التي كان أجدادهم يشغلونها قبل حوالي 15 قرنًا من الزمن. كان بعضهم يتصل مع الكنيسة الأرثوذكسية في روما والبعض الآخر مع اليونانية والروسية. ولا تزال لدى البعض منهم خلافات مذهبية خفية مع كل ما سبق أعلاه، بيد أنهم يحافظون على نوع من المودة تجاه إخوانهم في الدين أينما وجدوا وأياَ كانت معتقداتهم.
قَبِلَ جميعهم تقريباً ادعاءات روسية المتجددة والتي يرجع أصلها إلى القرن التاسع عشر والقائلة إن روسيا هي حامية المسيحيين في المنطقة. "لقد منحت روسيا الأمل للشعب السوري"، هذا ما جاء على لسان "البطريرك إغناطيوس إفرام الثاني" راعي الكنيسة الأرثوذكسية السورية.
ونظراً للوضع الذي كان يعيشه إخوانهم في الدين، فقد تردد زعماء الكنائس الغربية في التصريح ببيانات قوية بشأن ما يجري في سوريا. إن الدفاع عن الأسد أمر شائن أخلاقياً، لكن خطر الدعوة لإسقاطه يبدو كنعيٍ للمسيحيين. ويوم الحادي عشر من هذا الشهر، أعلن الفاتيكان -والذي هو على علم جيد و صلات طيبة بسوريا وكان قد عمل بدقة أكثر من أي سلطة مسيحية- أن سفيره الخاص في دمشق قد سلم الأسد رسالة تدين العنف الممارس من قبل المتطرفين من كل الأطراف، وتحثه على ضمان احترام القانون الإنساني فيما يتعلق بحماية المدنيين". كانت هذه وسيلة للإشارة إلى أن "البابا فرانسيس" كان يعلم الآثار المروعة لقصف حلب ولكنه تقبل أيضاً وجود أشرار آخرين في ميدان الصراع.
وفي شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، أثار "مايكل نذير علي" الأُسقف المتقاعد في الكنيسة الأنجليكانية والمولود في باكستان، ضجة عبر اجتماعه بالأسد بصحبة مجموعة من البريطانيين المعنيين، كان من بينهم اثنان من زملائه. لقي هذا الاجتماع أصداءَ مُدينة له في مدينة "ويست منستر" البريطانية لمنحه ضربة دعائية غير متوقعة لمجرم حرب، لكن الأسقف دافع عن لقائه الأسد بعبارات موزونة مصراً على أنه وضع ورفاقه لائحة من الأسئلة الصعبة أمام الرئيس الأسد حول قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة وتعذيبهم، وأضاف: "أنا على يقين بأن هناك تجاوزات يرتكبها جميع الأطراف في سوريا ولا يمكن تبرئة الحكومة من ارتكابها للأعمال الوحشية".
خلال الأيام القليلة الماضية، عاد أحد الكهنة من مجموعة الأسقف ويدعى "اندرو اشدون" إلى سوريا وأظهر "توازناً" لا مثيل له في وصفه المتقد لـ"تحرير" حلب، وذلك على مواقع التواصل الاجتماعي وخلال لقاء تلفزيوني مع قناة "روسيا اليوم". فيما يُصر "اشدون" وربما كان على حق، على أن العالم لم يُعِر الفظائع التي يرتكبها المتطرفون السُنة ما يكفي من الاهتمام، إلا أنه لم يصدر عنه سوى أحر وأطيب الكلمات بحق الجيش الروسي و"إنسانيته النزيهة" على حد تعبيره.
فهل من الممكن بعد ذلك أن يقف رجل دين مسيحي في أي مكان في سوريا ويتحدث بنزاهة عن الجرائم والمعاناة من كل النواحي؟!. حاول ذلك شخصان في غاية الشجاعة، الأول هو "الأب باولو دالوليو" وهو يسوعي إيطالي يملك سنين طويلة من الخبرة في سوريا، وتعاطف مع المعارضة الديمقراطية لدى ظهورها عام 2011 وطردته الحكومة من سوريا، لكنه حاول عام 2013 دخول البلاد مجدداً عبر الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة على أمل تقديم العون للأصدقاء هناك ثم اختفى بعد ذلك. يسوعي آخر هو "فرانس فان دير لوغت" شهد بأم عينه قسوة الأطراف المتحاربة بطريقة مختلفة، متجاهلاً كل النصائح الحكيمة التي وجهت له، بقي "فان دير لوغت" في مدينة حمص رغم أنها كانت تحت القصف من قبل قوات النظام ولا يدافع عنها إلا المتطرفون السُنة"ـ إلى أن تم اغتياله في نيسان من العام 2014 .
إذاً لنعيد تلخيص السؤال، هل يمكن لرجل دين مسيحي في سوريا التحدث بنزاهة والبقاء على قيد الحياة؟!. لقد تمكن من ذلك كاهن سوري شجاع جداً وهو "الأب جاك مراد" العضو في مجموعة دينية أسسها الأب "دالوليو" الذي نجا بأعجوبة بعد خمسة أشهر من الأسر لدى تنظيم الدولة الإسلامية، ورداً على سؤال وجه له في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عن رأيه بالقوى الخارجية التي تتدخل في بلاده، استهل الأب مراد الحديث بالقول إنه ينبغي كبح جماح المملكة العربية السعودية ومنعها من دعم المتطرفين السُنة، وهي نقطة يتفق عليها سائر المسيحيين في سوريا". وتابع بقول كلمات ينبغي أن تمنح كل مُحبي الأسد من المسيحيين وقفة للتفكير." تقصف الولايات المتحدة سوريا والعراق منذ سنوات، واليوم يفعل الروس ذلك أيضاً، وما الذي حققوه؟! هل أوقفوا عنف الإرهابيين, بالتأكيد لا".
بوضوحه الذي يفوق وضوح الكثير من المسيحيين في سوريا، يبدو أن الأب "مراد" يشعر أن التطرف الجهادي سوف لن يدفن تحت أنقاض حلب الشرقية بل سيرتحل و سيستشري كالسرطان.
الايكونوميست- ترجمة محمد غيث قعدوني- السوري الجديد
↧