تعيش مدينة دمشق لليوم الخامس على التوالي من دون ماء، إلا كميات قليلة يتم ضخها عبر آبار ارتوازية تصل إلى بعض الأحياء. ولكن النظرة العامة تقول إن دمشق عطشى، لا ماء للشرب فيها، ولا للاستخدام اليومي، وذلك بعدما قُطعت المياه من مصدرها الرئيس في وادي بردى، بعد تعرض نبع الفيجة للقصف بالبراميل المتفجرة، ما تسبب بخروجه عن الخدمة بشكل نهائي، وتلوث المياه بالكلور والمواد المشغلة للمولدات والمضخات.
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها قطع المياه من مصدرها الرئيسي، فقد فعلتها فصائل وادي بردى المُعارضة، مراراً وتكراراً، على مدى السنوات الماضية، كنوع من الضغط لوقف القصف على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ولكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفاً، فالحملة العسكرية شرسة، والنظام يتقصد قصف النبع، ويبدو أن في نيته تدميره بشكل كامل. ولكن هل النظام السوري يملك بدائل عن الفيجة لتزويد دمشق بالماء؟
سؤال طرحته "المدن" على مسؤول في "مؤسسة مياه دمشق" فأجاب مفضلاً عدم ذكر اسمه، أن احتياطي الماء في دمشق انتهى قبل يومين، و"بدأنا باستخدام الآبار الارتوازية، ولكنها غير قادرة على تغطية حاجات 7 ملايين نسمة، فهذا مستحيل. ونحن نعتمد جدولاً بحيث يزود كل حي بالماء، كل ثلاث أيام مرة واحدة". المسؤول لا يظن أن تلك الحالة يمكن أن تستمر لأكثر من أسبوع "قبل أن نعلن عجزنا عن تلبية المواطنين بالماء، خصوصاً أن المياه مرتبطة بوجود الكهرباء لسحبها إلى المناطق المرتفعة، والطوابق العليا، وهذا ما ليس بمقدورنا التحكم به". فوزارة الكهرباء في وادٍ، ومؤسسة المياه في وادٍ آخر، وأغلب المنازل لا تصلها المياه لهذا السبب.
ورغم كل التصريحات التي تخرج على لسان الحكومة، إلا أن المصدر أكد: "نحن لسنا مسؤولين عنها، وإن استمر الحال على ما هو عليه فدمشق ستعطش. الموضوع بحاجة إلى حل سريع وجذري، فإن تم التوصل لاتفاق يلزمنا أكثر من عشرة أيام لإصلاح الأضرار وتنقية المياه قبل أن يتم ضخها إلى دمشق من جديد".
الأحد في دمشق كان يوماً لم تمر به العاصمة طوال ستة أعوام من الصراع المُسلح. فالناس في الشوارع يبحثون عن مصدر للمياه؛ في الحدائق العامة والمشافي والمساجد، حتى أن كثيراً من المساجد قد أغلقت المواضئ بشكل نهائي معلنة نضوب مخزونات الماء فيها. وأغلقت بعض المدارس الخاصة أبوابها في وجه الطلاب معلنة عطلة مفتوحة إلى أن يتم حل أزمة المياه.
صباح الإثنين، منعت الأجهزة الأمنية، الناس في أحياء المهاجرين وأبو رمانة والروضة وبعض أحياء المزة جبل، من إدخال الصهاريج. ولم يتضح السبب لذلك حتى الآن.
محمد، تاجر ألبسة في سوق الصالحية، توقع الأسوأ في الأيام المقبلة، ما لم يتم التوصل لاتفاق. فالحالة الاقتصادية في دمشق مزرية جداً، وليس باستطاعة أكثر من 75 في المئة من سكانها تحمل أعباء وتكاليف إضافية، خصوصاً أن سعر ليتر ماء الاستخدام قد وصل إلى 150 ليرة سورية، فيما وصل سعر عبوة مياه الشرب من سعة ليتر ونصف ليتر، إلى 500 ليرة سورية (دولار أميركي واحد).
ويعترض كثيرون من سكان دمشق، على استخدام فصائل الوادي لمياه النبع كورقة ضغط على النظام، في إشارة إلى أن رموز النظام وحاشيته والأغنياء في دمشق لم يتأثروا من هذا الانقطاع. والتعاطف الذي يبديه سكان دمشق مع أهالي منطقة وادي بردى بما يتعرضون له من قصف وإبادة، بغرض التهجير، لم يخفِ الغضب الذي أبداه كثيرون من سكان العاصمة؛ ورغم أن النظام هو من قصف النبع ودمره هذه المرة وأخرجه عن الخدمة نهائياً، تبدو المشاعر مختلطة بالحقائق والأغاليط لدى سكان دمشق.
الصهاريج تتم تعبئتها من الثكنات العسكرية والآبار الموجودة فيها، وباتت سيارات الإطفاء تستخدم لنقل المياه للمسؤولين والأغنياء. والذي ذاق الأمرين هو الفقير والمهجر، والذي لا واسطة له ولا مال. وهذه الفئة طبعاً من منسيات النظام، ولن يهتم بها حتى لو بقي الحال شهراً أو أكثر. الكهرباء خير دليل، للسنة الرابعة لا تزال تنقطع ليومين أو ثلاثة، من دون أن تصل بعض الأحياء، والحجج جاهزة: "الارهاب" سبب دمار كل شيء في البلد.
حكومة النظام ومؤسسة المياه، سارعت بخطوات لتدارك الموقف في أول يومين، فطرحت كميات كبيرة من مياه الشرب المعدنية في المؤسسات الاستهلاكية، وبسعرها الرسمي من دون زيادة، وقامت ببيعها عبر سيارات جوالة في أحياء دمشق، فضلاً عن توزيع مياه الاستخدام المنزلي مجاناً عبر صهاريج. ولكن انتهاء مخزون المياه عند أصحاب القرار والمسؤولين والضباط وأعضاء المليشيات، وتدخل تجار الحرب حال دون إكمال المخطط، فبات الصهريج يُسحب إلى منزل الضابط أو القيادي المليشياوي، عنوة، ويتم تفريغه في خزاناتهم وخزانات المقربين منهم. وتدخل تجار الحرب لسحب كمية المياه المعدنية التي تم طرحها في المؤسسات الاستهلاكية واحتكارها، رفع من سعرها أضعافاً، فأصبح من الصعب على المواطن العادي شرائها.
وفي ظاهرة غير معتادة، نشطت حمامات السوق في دمشق القديمة بعد أزمة المياه والمحروقات والكهرباء في الاسبوع الأخير، وبات المواطن بحاجة إلى حجز مسبق في حمام "الظاهر بيبرس" على سبيل المثال، مع العلم أن تزويد تلك الحمامات بالوقود والمياه لم يتوقف نهائياً، ولها مخصصات يومية تصلها حتى في الأزمة الحالية.
ويقول الصحافي مؤيد، إن النظام لو أراد حل المشكلة لبدأ بتنقية المياه التي تم تحويلها إلى مجرى نهر بردى بدلاً من دمشق، وهو يستطيع ذلك إن أراد، حتى إن كانت لا تصلح للشرب فهي ستصبح صالحة للاستحمام والغسيل والأعمال المنزلية. ولكن النظام غير مهتم بأمر السكان نهائياً، ولا يفهم إلا لغة العنف. وارتفع مؤخراً منسوب الماء في نهر بردى، الذي يمر ضمن العاصمة، مع تحويل المياه إلى مجراه. إلا أن مياه النهر ملوثة بشدة بسبب مياه الصرف الصحي التي تصب فيه.
ويُرجّح مصدر مقرب من النظام، في تصريح لـ"المدن"، أن الحملة العسكرية سوف تستمر على وادي بردى، حتى القبول بالتسوية، ولو اضطره الأمر لتدمير النبع وإبقاء دمشق بلا مياه لشهر أو أكثر. فالقضاء على "الإرهاب" أهم من المياه في الوقت الحالي، على حد تعبيره.
- http://www.almodon.com/
↧