وليد بركسية: المدن
نظرة أقرب إلى الديكتاتور، بهذه الجملة يمكن تلخيص عامٍ كامل من لقاءات رئيس النظام السوري بشار الأسد مع الصحافة الغربية، التي كسر بها شيئاً من العزلة الإعلامية الدولية حول نظامه، مقدماً رسائل سياسية مكررة بأنه المحارب الأول للإرهاب في المنطقة، مستغلاً رغبة الصحافة العالمية بالقيام بواجبها في تقديم "خبطات صحافية" والحصول على معلومات جديدة من أخطر منطقة على الكوكب لحصد مزيد من القراءات.
ومع طول أمد الحرب السورية، باتت للأسد جاذبية أكبر بالنسبة للإعلام العالمي، لأن أي تصريح منه بشكل حصري سيكون كفيلاً بحصد قراءات كثيرة من دون شك، سواء كانت تصريحاته مجرد بروباغندا مكشوفة ومكررة، أو آراء شخصية متطرفة، كعدم ندمه على كل ما فعله بالبلاد طوال سنوات الحرب، علماً أن الصحافة الغربية تسعى منذ العام 2011 للحصول على تصريحات حصرية ومقابلات مع الأسد، لكن ذلك كان متعذراً مع ابتعاد الأسد عن الإعلام بشكل واضح آنذاك، إذ ربما لم يكن الموقف السياسي حينها يسمح بالحوارات الإعلامية التي تقتضي نظرياً امتلاك القوة على الأرض للتحاور وفرض وجهة النظر السياسية على الرأي العام بأدلة من الواقع، كما هو اليوم.
وللاستدلال على "جاذبية" الأسد كـ "شخصية جدلية"، فإن عدد مشاهدي مقابلته مع تلفزيون "ARD" الألماني مطلع العام 2016، تجاوز الـ50 ألف مشاهدة في قناة "يوتيوب" التابعة للمحطة، والتي لا تحظى مقاطعها عادة بمشاهدات سوى بالمئات أو الآلاف. أما مقابلته مع قناة "NBC" الأميركية فتجاوز عدد مشاهديها الـ275 ألف في "يوتيوب" أيضاً، علماً أن المقابلات نفسها يتم بثها عبر عشرات قنوات "يوتيوب" التابعة لرئاسة الجمهورية السورية (الرسمية وغير الرسمية)، للمساهمة في نشر البروباغندا على نطاق واسع، فيما لا تتوافر أرقام لعدد مشاهدي مقابلاته عبر البث التقليدي مثلاً ولو بشكل تقديري.
والحال أن الأسد أجرى 21 مقابلة صحافية طوال العام 2016، منها 13 مع وسائل إعلام غربية كبيرة ومرموقة، مقابل 4 لقاءات مطولة مع الصحافة الروسية الحليفة له، ولقاء وحيد للإعلام الإيراني وآخر للإعلام الكوبي، كما ظهر في لقاء مع صحيفة "الوطن" السورية خلال الشهر الجاري، إضافة إلى مقطع فيديو لزيارته إلى منطقة مرج السلطان في حزيران/يونيو، والذي كان الأول له منذ فترة طويلة خارج حدود العاصمة دمشق.
تقترب هذه الأرقام بشكل كبير مما كانت عليه خلال العام 2015، حينما أجرى الأسد 13 لقاء مع صحف غربية، من أصل 18، لكن الفارق الجوهري هنا ليس في الكم بل في نوعية وجماهيرية الصحف والمحطات التي باتت تتحدث اليوم إلى الأسد مباشرة، بعدما كانت تُحجم عن ذلك طوال السنوات الماضية باعتبار الأسد مجرم حرب في طريقه إلى الهزيمة.
الحديث هنا عن محطات تلفزيون وطنية عامة واسعة الانتشار، مثل "ARD" الألمانية و"SBS" الأسترالية، و"SRF1&8243; السويسرية، والتلفزيون البرتغالي الرسمي، والمحطة الدنماركية الثانية، والتلفزيون اليوناني، إضافة إلى شبكة "NBC" الأميركية وهي واحدة من أكثر القنوات متابعة في الولايات المتحدة، ووكالتي أنباء عالميتين هما "فرانس برس" و"أسوشيتد برس"، وصحف "نيويورك تايمز" الأميركية، و"صنداي تايمز" البريطانية، و"إل بايس" الأكثر انتشاراً في إسبانيا.
الصحافة الغربية لم تكن تبحث هنا عن المعلومات الجديدة ولم تحاول تسجيل موقف أخلاقي تجاه ديكتاتورية الأسد، بقدر ما كانت تريد تسجيل التواجد كوسائل مرموقة تقود الرأي العام العالمي، بموازاة طرح الأسئلة الروتينية حول ما يريده النظام بعد كل التحولات السياسية التي حصلت منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في البلاد، أواخر العام 2015، والذي أعطى النظام دفعة معنوية وعسكرية كبيرة للتصرف من منطلق القوة. وحاول هؤلاء الصحافيون فهم "التركيبة النفسية" للديكتاتور، من خلال أسئلة مباغتة عن ضحاياه من المدنيين، والطفل عمران دنقيش مثلاً (المراسل الألماني توماس أدرس والمراسل السويسري ساندرو بروتز).
والحال أن مزاعم الأسد بمحاربة الإرهاب والاستعداد للتعاون مع الغرب بهذا الخصوص، بقيت محور أحاديثه خلال العام الجاري، لكن نبرته ونوعية مفرداته باتت مختلفة مع تحوله من التبريرات واللغة الدفاعية، إلى الهجوم وفرض سياسة الأمر الواقع بفعل "انتصاراته" الميدانية على الأرض مع حليفه الروسي، وتحديداً في حلب حيث طبّق سياسة الأرض المحروقة.
اللافت أن أكثر من نصف هذه المقابلات حصل خلال النصف الثاني من العام. فمنذ أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، أجرى الأسد 12 لقاء صحافياً، فضلاً عن لقاءات موسعة مع إعلاميين غربيين مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، مقدماً هنا أبرز تصريحاته خلال العام، سواء تلك التي هاجم فيها الغرب، أو التي أعلن فيها أنه مستمر في حكم البلاد حتى 2021 على الأقل، مع القول أنه لا وجود للمعارضة أصلاً في سوريا بخلاف ما كان يقوله قبل سنوات حول ضرورة الحوار مع معارضيه من أجل وقف إطلاق النار، وصولاً إلى تكذيبه كافة الصور المروعة للأطفال الذين قتلوا في حلب مثلاً، وضحكاته المستفزة عندما كان يواجَه باتهامات الصحافيين له بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، مستمداً القوة للتبجح الإعلامي من وقع انتصاراته الميدانية الأخيرة في حلب.
في السياق، أتى توجه الأسد للظهور في الإعلام الروسي بكثافة، على حساب انعدام إطلالاته في الإعلام المحلي والإقليمي الحليف في لبنان وإيران، إذ ترك هذه المهمة لمسؤولين أقل رتبة معنوية منه، مثل وزير خارجيته وليد المعلم، ومبعوثه إلى الأمم المتحدة بشار الجعفري. ويرتبط ذلك بأولوية ترتيب الولاءات التي بات النظام مرهوناً بها للدول الحليفة له، مع الإشارة إلى ظهور الأسد في لقاءاته الروسية وكأنه موظف حكومي روسي صغير أو رئيس بلدية ريفية صغيرة يحاسبه صحافيو العاصمة موسكو بشراسة على أخطائه وقراراته أمام الشعب الروسي! وظهر ذلك بوضوح في لقائه مع الصحافية داريا أسلاموفا، التي طلبها النظام السوري بالاسم لكسر روتين اللقاءات الذكورية الجامدة والرغبة في تقديم مقابلة خارجة عن المألوف مع الأسد.
بخلاف الأسد ساهم رموز النظام الآخرون في كسر العزلة أيضاً، بداية بمستشارة الأسد الإعلامية بثينة شعبان، التي تحدثت عبر "سكايب" في مؤتمر دولي حول "داعش والقاعدة" استضافه "نادي الصحافة الوطني" الأميركي، وانتهاء بمفتي النظام أحمد بدر الدين حسون، الذي تحدث أمام البرلمان الإيرلندي في أول ظهور له في دولة غربية منذ العام 2011. وتبقى زوجة بشار، أسماء الأسد، هي الأبرز في هذا الإطار، بعدما ظهرت للمرة الأولى منذ ثمانية أعوام، في لقاء صحافي وفيلم وثائقي مع وسائل إعلام روسية، مقدمة بروباغندا النظام في محاربة الإرهاب على طريقتها "الأنثوية" الخاصة.
ولا يعني ذلك أن النظام السوري استطاع إقناع الإعلام الغربي والرأي العام العالمي بأقواله، بل يعني فقط أنه نجح في بث البروباغندا السياسية الخاصة به بشكل مباشر، بدليل أن الكثير من مقابلات الصحافة الغربية مع الأسد لم تنشر في صيغة سؤال وجواب، بل صاغها الصحافيون بأسلوب أقرب إلى التعليق الإعلامي، وأتت لغتها أقرب إلى الاستغراب والاستهجان في تقديمها لاقتباسات الأسد، كما هي مقابلته مع "صنداي تايمز". كما أن الكثير من مُحاوري الأسد التلفزيونيين أجروا لقاءات وتصريحات بعد مقابلاتهم معه، كشفوا فيها كواليس اللقاء الذي يتم الإشراف عليه بشكل مسبق، حسبما كتب الصحافي الأسترالي لوك ووترز على سبيل المثال.
وعمل النظام بشكل واضح طوال العام على توجيه الدعوات للصحافة الغربية من أجل زيارة سوريا والاطلاع على "حقيقتها"، وذلك عبر لقاءات وجولات ميدانية معدة مسبقاً على هامش اللقاء مع الأسد نفسه. وبالطبع، لا حرية حقيقية هنا، إذ يُكبّل الصحافيون والمراسلون بمجموعة شروط وقيود مسبقة قبل إعطائهم حق الدخول للبلاد، ويُطرد الإعلاميون المخالفون لتلك الشروط فوراً، كما حصل مع المراسلة السويدية سيسيليا أودين، التي طردها النظام من سوريا بعدما قدمت تغطية للواقع الإنساني المخيف في حلب الشرقية، بعكس الرسالة التي حاول النظام إيصالها للغرب.
↧