نبع الفيجة ..... السقا الخالد
كتب المؤرخون عن دمشق , وعراقتها وقدمها , فأحصوا لها عشرين اسماً , وأكثر من خمسة عشر اسماً لملوك وقادة وأنبياء قيل أنهم أول من بناها . وتحدث علماء الآثار عن طريقة بنائها , ومكانها الأول , وعدد الأعمدة فيها , وعن سورها وعدد الأبواب التي تحيط بها . وقد تأكد أن استمرارية المدينة لم تكن لولا وجود المياه فيها , التي ثبت أنها من أعذب مياه العالم , وأكثرها نقاءً وبرودة , بل إن هذه المياه ظلت عبر السنين العروة الوثقى التي تربط بين قلوب ساكنيها , وكلمة السحر التي تشد قلوب الزائرين إليها .
ينبع نبع الفيجة من بلدة الفيجة التي تقع غرب دمشق وتبعد عنها ( 22 ) كم , وهي قبلة المتنزهين في مطاعمها الخيرة والكريمة . ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ( 825 ) م . وقد ضرب المثل بنقاء وعذوبة مياهه .
ويتغذى حوضه من الأمطار والثلوج التي تترشح داخل الطبقات التورونية التي تفجر منها النبع . وكون حوضه جبلي لا يمكن السكن به , أعطاه خاصية عدم التلوث .
أقام الرومان فوق النبع والمعروف باسم ( حصن عزتا ) معبدا حيث كانت المياه مقدسة لديهم , ويضم المعبد الغرفة المقدسة أو ما يمكن تسميته بالمذبح الروماني ( مكان تقديم القرابين ).
وقد نقل الرومان المياه إلى دمشق عبر قناة على سفوح الجبال , وتبقى منها أثر صغير في منطقة جبال قرية بسيمة ويعتقد أن تلك القناة كانت تصل حتى الضمير التي تقع شرقي دمشق وتبعد عنها ( 24 ) كم . ويبين مقطع القناة أنها كانت قادرة على جر ( 1 ) متر مكعب في الثانية
قامت نخبة من وجهاء دمشق بالتفكير في جر مياه الفيجة عبر نفق - بعد أن كانت المياه تصل إلى دمشق عبر أنبوب من الفونت بقطر ( 250 ) مم اعتبارا من عام ( 1908 ) فأسسوا جمعية تعاونية انبثقت عنها لجنة سميت لجنة مياه الفيجة برئاسة لطفي الحفار حيث قررت تنفيذ نفق من البيتون المسلح , وقامت بدراسة هذا النفق شركة فرنسية تدعى ثيغ ( THEG ) وبدأ بتنفيذه عام ( 1924 ) و تم تدشينه عام ( 1932 ) وبلغ طوله ( 16.600 ) كم . و تم جر المياه إلى بيوت دمشق بالإسالة بتصريف أعظمي ( 3.5 ) متر مكعب في الثانية. وقد سمي هذا النفق فيما بعد بالنفق القديم وبلغت كلفة تنفيذه ( 271737 ) ليرة ذهبية جمعت كلها من الأهالي.
في عام ( 1981 ) تم إنجاز مشروع جر جديد للمياه بإدارة السيد رضا مرتضى قيد الاستثمار, حيث تم تنفيذ نفق أخر من البيتون المسلح سمي بالنفق ( الجديد ) من قبل شركة فرنسية أيضا وهي شركة بويك ( Bouygues ) . وبلغ طول هذا النفق ( 14.400 ) كم وبتصريف أعظمي ( 10 ) متر مكعب بالثانية .
يبلغ وسطي العطاء السنوي لنبع الفيجة ( 250 ) مليون متر مكعب . بينما يبلغ وسطي العطاء السنوي لنبع بردى ( 115 ) مليون متر مكعب . لهذا كان القدماء يقولون ( الصيت لبردى والفعل للفيجة ) وعلى بعد ( 23 ) كم من دمشق يلتقي نهر بردى مع فائض نبع الفيجة .
وبالإضافة إلى خواصه الفيزيائية والكيميائية النادرة فإن إحدى ميزاته أن مياهه تصل إلى مدينة دمشق بالراحة دون استعمال مضخات لرفع المياه.
يعتبر نبع الفيجة المصدر الرئيسي لمياه الشرب لمدينة دمشق , لكن تصريفه في فصل الشح ( يقع بين شهر حزيران وشهر شباط ) ينقص بشكل ملحوظ بالمقارنة مع تصريفه في فصل الفيضان ( يقع بين شهر آذار وحتى شهر أيار ) حيث أن تصريفه يتناقص في فصل الشح حتى نسبة ( 8/1 ) ثمن تصريفه بشكل وسطي في فصل الفيضان وينتج عن ذلك أن نبع الفيجة يؤمن كامل حاجة مياه الشرب لمدينة دمشق في فصل الفيضان في عام وسطي الرطوبة ويذهب فائض الإنتاج إلى نهر بردى ثم يتطلب ردفه بمياه مصادر أخرى ابتداء من شهر حزيران . ويبلغ وسطي الهطول فوق حوض الفيجة ( 514 ) مم وقد كان أدنى هطول في شتاء ( 1959- 1960 ) حيث بلغ ( 225 ) مم . وأعلاه في شتاء ( 2002 – 2003 ) حيث بلغ ( 1020 ) مم .
لقد ظهر للجميع من خلال العمارة الدمشقية ماذا تعني المياه لأهل تلك المدينة ووفرتها. فنرى ذلك من خلال تصميم ( الفسقيات والبحرات ) في البيت الدمشقي , وتصميم الطوالع التي تمتع بعضها بفن خالص من النحت والتصميم والتوزيع وقد عمل الدمشقيون على إقامة السبل ( جمع سبيل ) وقد بلغ عددها في بدايتها أكثر من ( 800 ) سبيل , اندثر أكثرها وما كانت هذه السبل إلا من ثمار وفرة المياه وانتشارها في مدينة دمشق من جهة ومن جهة أخرى ثمرة طيب قلوب أبناءها وتفكيرهم بإرواء عابري السبيل , ومنها سبيل مسلم البارودي أمام مبنى محطة الحجاز ,وكانت تزين بنقوش وآيات من القرآن الكريم .
لقد أثرت المياه تأثيرا هاما على الكثير من التراث الدمشقي فمثلا لوحة الفسيفساء الجميلة في الجامع الأموي كان عنصر تشكيلها الأساسي الماء .
وعرفت المفردات الدمشقية كلمات فرضتها المهن المتعلقة بالمياه ووفرتها , وعلى سبيل المثال للحصر :
- الشاوي : المسؤول الذي ينظم المياه ويعنى بنظافتها .
- الرشاش : المسؤول عن ترطيب الشوارع والحارات والأزقة
- الأكار : المسؤول عن تحويل مجرى الأنهار وشقها .
- السرباني : وهو الذي يعزل المجاري المائية ويخلصها من الشوائب .
- السقا : المسؤول عن نقل المياه وإيصالها إلى البيوت البعيدة
- الصوجي : بائع المياه في الجرات .
- الفرضي : المسؤول عن تقسيم المياه بين الناس بالعدل .
إنها قصة - ساقٍ - يعطي دون مقابل ولكنه يتألم لرؤية عطائه يهدر كل يوم بعبثية ليس لها نظير. وغياب لأي أفق للحد من هذا الهدر الذي يكاد يكون قاعدة . لقد خطط الأقدمون قبل التاريخ – حسب الباحث ثومين ( Thoumain ) لأن يبنوا قرية زراعية تقع في المنطقة مابين القلعة الحالية والباب الشرقي , لأنها تجمع الشروط الملائمة لنشأتها زراعيا وسياسيا , مما أهلها بالتالي لتصبح مدينة كبرى ومركزا للنشاط الاقتصادي والسياسي لهذه المنطقة من العالم . ويتابع " إن سكان هذه المنطقة يعلمون حق العلم بأن بردى والأقنية المتفرعة عنه ليست ضرورة لازدهار منطقتهم فحسب بل لحياتهم أيضا .. لذا فإن المطلع على موزعات المياه إن كان في الغوطة أو في دمشق يتأكد له من تعقيداتها ودقتها الظاهرة. إن أهالي هذه المنطقة يعلقون أهمية على الماء لا تقدر بثمن .. وإن طريقة عمل موزعات الماء هذه توحي بفكرة العدالة والتساوي التي كانت سائدة في الأصل ".
↧