من الممكن أن تتفهّم السجال حول بعض المواضيع والاختلاف في الرأي، وأن يصل لحدود الخلاف، كالموقف من قضية مطلبية مثلا، وأن يبقى السجال مضبوطاً ضمن معايير محددة. لكن ما لا يمكن تفهمّه، أن تجد لبنانيين منقسمين حول موت مواطنين بلا ذنب، سوى أنهم يمارسون حياتهم وتفاصيلها كما يحلو لهم. فهذا أمر قد تخطى سجاليته حتى وصل إلى إستهجان فرح الضحية ومشاركة القاتل فرحته.
لقد تخطى كل حدود إنسانيتنا وأعادنا إلى مسائل لم تعد محسومة، لا بل نزع السجال عنها بداهتها، وردّها إلى نقطة الصفر. فلم يكتفِ المساجلون في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي بانتهاك حرمة الموت عبر التعرُّض للضحايا بأبشع النعوت والشتائم، بل مضوا في تبني العملية الإرهابية من حيث لا يدرون.
شكّلت ليلة رأس السنة 2016-2017 نقطة مفصلية في اختلاف اللبنانيين حول موت شبابهم في العملية الإرهابية التي نفذها تنظيم "داعش" في إسطنبول. كما أصبحت نقطة إنطلاق لسجال لا تُحمد عقباه، ليس على المحطات التلفزيونية فحسب، بل في وسائل التواصل الإجتماعي أيضاً. الملفت هنا أن القضية لم تكن متعلقة بمطلب ما يتضرّر منه أحد على حساب أحد، أو قضية تمسّ جماعة بعينها دون أخرى، كما لم تكن قضية خاضعة لمسألة حرية التعبير وشروطها وقيودها. إنها قضية موت طاولت مواطنين لم يعلموا أن قرارهم في مواصلة الحياة محفوف بكل هذا الكره إذا ما تعرضوا لأي أذى، فكيف إذا تم قتلهم في وسط فرحهم؟
يوماً بعد يوم، يثبت الإجتماع اللبناني مدى الإنقسام الذي وصل إليه، ليس على مستوى السياسة فحسب، بل على مستوى الإجتماع برمته. في هذا الإطار، برز دور وسائل الإعلام في استغلال الحدث الأمني هذا لتعيد تشكيله كمادة تجارية بالدرجة الأولى، وكمادة خلافية إنقسامية بالدرجة الثانية. لم تقم المحطات أي إعتبار للموت وجنازته والحداد المرافق له. لم يعد يخفى على أحد الدور السيء المتعمّد الذي تمارسه وسائل الإعلام تحت وطأة السبق الصحافي. إعلام يهجس بالسبق على الجثث. التنافس المحموم بين المحطات يجعل من الكاميرات رشّاشات حربية، ومن المراسلين أشباه قتلة تستبيح دموع الناس وحزنهم وتنتهك كل طقوس الحداد.
يتخبط المراسلون في معمعة اللحظة الحرجة، لحظة التأكد من موت فلان أو فلانة، ينقلون مشاعر ليست لهم ولحظات هيستيرية لاواعية تخص أهل الفقيد. يتجرّد المصوّر والمراسل/ة من أي مشاعر، وينغمسوا في سبر مشاعر أهل الضحية. يتجرّدون في الوقت الخاطئ، في الوقت الذي كان عليهم أن يحزنوا ويبتعدوا عن وجوه لا تسيطر على تعابيرها وإنفعالاتها. التجرّد كان مطلوباً في ما بعد، أي عندما نذهب إلى إعداد الخبر وتجنيبه فخ الإنزلاق إلى مشهد الإنقسام وتكريسه.
تنسى الوسائل الإعلامية الضحية لشدة إنخراطها في تفعيل السجال وتوضيح مشهد الإختلاف وتعزيز الإنقسام. تتوغل المحطات التلفزيونية في المشاعر المحقونة بغية استدراجها صوب الخلاف القائم. تذهب بعيداً في التشكيل المفتعل لمشهد قائم على التمايز الطائفي والعقائدي. كل هذا لا ينفي وجود الإنقسام بالأصل وهو في أبهى حلله في وسائل التواصل الإجتماعي. بيد أن في الوقت الذي يتطلب تدخل الوسائل الإعلامية للعب دور متميز ومحايد في طرح الإشكالات تبدو أنهاً طرفاً متمترساً خلف الشاشة. تعيد نشر ما فات المواطنين متابعته عبر "فايسبوك" و"تويتر". هذان الموقعان المفخخان بكل أنواع الألغام الطائفية والمذهبية والعقائدية.
تخطينا حرية التعبير لنصل حد الشماتة في الموت والتحريض على القتل وتبني العمليات الإرهابية والتهليل للقتلة. لا بل ذهب الخطاب أبعد من ذلك، لقد بات خطاب كراهية يحث على القتل العلني لكل مخالف للرأي والإنتماء.
لم يشكل موت بعض اللبنانيين لحظة تكافل وتضامن بقدر ما شكّل نقطة موت إضافية. موت الحد الأدنى من إنسانيتنا. بتنا بحاجة لتبرير موتنا أمام الشامتين. لم يعد أرباب الخطاب القاتل يكتفون بالسخرية من الموت بقدر ما أصبحوا شريكاً للإرهاب. لقد إستيقظنا في اليوم الأول من العام 2017 على معطى جديد في حياتنا الإجتماعية: "داعش" يقتل وبعضنا يبرر.
هذه المعادلة ستصبح قريباً على الشكل التالي: بعضنا يحرّض و"داعش" يقتل. بين وسائل إعلام تضرب المعايير المهنية، عرض الحائط، وبين جمهور كامل يكرّس خطاب كراهيته القاتل، بتنا نموت مرتين أو أكثر.
2
لبنان فايسبوك وتويتر
في موازاة الخطاب السياسي الرسمي "الموحَّد" إزاء مأساة سقوط ثلاث ضحايا لبنانيين في الهجوم الإرهابي الذي استهدف "ملهى رينا" الشهير في تركيا ليلة رأس السنة، كانت وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى نحو مستغرب، تشهد سجالات واحتدامات كلامية لأسباب متصلّة بهذه المأساة نفسها. كأنّ يدور سجال محتقن بين فئة تقول إن هؤلاء الضحايا شهداء وأخرى تنفي عنهم هذه الصفة، أو أن تخرج بعض الأصوات الشامتة بمقتلهم في مكان للّهو. وليس خافياً أنّ هذه الاحتقانات الكلامية ذات خلفيات طائفية متنوعة، وهذا ما يدعو إلى الخوف مما وصلت إليه حال "مجتمعات المجتمع" من انفعال وتوتّر وانجرار نحو خطاب الكراهية والشماتة والعنف.
طبعاً، لا تعكس سجالات مواقع التواصل الاجتماعي حقيقة المجتمع كاملة. لكنّها، مع ذلك، هي التي تسود النقاش الاجتماعي/ السياسي والإعلامي عقب كلّ حدث أمني أو سياسي يجرجر وراءه احتقانات سياسية/ طائفية.. وهذا دليل على غياب أي خطاب بديل من هذه الأدبيات المنفعلة، وإلّا لكانت بقيت هامشية ولم تأخذ هذا القدر من التفاعل في المجتمع. والحال هذه أولّ ما يجب استخلاصه من كل هذا الانفعال على شبكات التواصل الاجتماعي هو أنّ مناعة لبنان ضدّ العنف والكراهية المتفشيين في الإقليم واللذين باتت إرتداداتهما تهدد العالم بأسره، ضعيفة جداً، بل تكاد تكون معدومة.. وهذه المناعة لا تتأتى من الجهوزية الأمنية ومن الاستقرار السياسي الذي يُمتدح صبحاً ومساءً هذه الأيام فحسب، بل يعزّزها أساساً خطاب سياسي واجتماعي وثقافي مدرك حساسية الأوضاع التي تمر بها المنطقة والعالم والتي تكثّف من احتمالات العنف الأهلي/ الطائفي/ الإثني في كل مكان، على نحو يفيد الإرهاب ويوفّر له بيئة استثمارية أوسع.
يحيلنا هذا إلى واقع السياسة اللبنانية، الذي شهد في الآونة الأخيرة تسوية بين أفرقائه الرئيسيين أتاحت ملء الفراغ الرئاسي وتشكيل حكومة "وفاق وطني"، في تطور يتوقّع أن ينعكس إيجاباً على الوضعية اللبنانية برمتها وأن يزيد من قدرات لبنان الدفاعية ازاء التطورات الدراماتيكية في عموم المنطقة، ولاسيما في سوريا القريبة التي ستدخل حربها عامها السادس قريباً وليس هناك من/ ما يؤكد أنها شارفت نهايتها بعد اتفاق وقف إطلاق النار الروسي- التركي.
لكنّ ما طفا على صفحات التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين عقب مجزرة "ملهى رينا" هو نذير شؤم. ففي موازاة اندفاعة أركان التسوية الأخيرة لتأكيد فتح صفحة جديدة في لبنان ستخرجه من أزمته المستمرة منذ سنوات وتعيد الاستقرار والازدهار إلى ربوعه، يتبيّن، من سجالات فايسبوك وتويتر، أن أقوى خطاب في المجتمع اللبناني اليوم هو خطاب الاحتقان والانقسام الطائفي والمذهبي. وقوّة هذا الخطاب ليست "منه وفيه"، إنما سببها غياب أي خطاب بديل مؤثّر. فالسياسيون الذين كانوا لفترة قريبة يتساجلون في ما بينهم ويتبادلون التهم بتعكير صفاء "الميثاقية" والعيش المشترك ليسوا قادرين اليوم على منع خطاب الكراهية بين اللبنانيين حتّى ولو اتفقوا في ما بينهم. والمدارس والجامعات لا تقدّم خطاباً "وطنياً" يتجاوز خلفياتها الطائفية والمذهبية. ووسائل الإعلام ليست واعية بمعظمها دورها في هذا الظرف الدقيق، بل هي تلحق "السكوب" من دون الحد الأدنى من الضوابط المهنية والأخلاقية. وقد بات عملها تحكمه شروط التنافس في ما بينها لا المعايير القيمية. فضلاً عن أن هناك حزباً لبنانياً ينخرط في حروب المنطقة أينما "دعت الحاجة". وهذا أمر ارتداداته كبيرة على لبنان، بل أكبر من قدرته على التحملّ. ومهما حاولت التسوية السياسية الأخيرة تغييب هذه المشكلة فهي لمّا تزل حاضرة.
فعلاً ما يحصل يدعو إلى الخوف وإلى الاشمئزاز والقرف في آن معاً.. الاشمئزاز من الخطاب الاختزالي (إذ يعمم قول شخص مسلم على الإسلام والمسلمين جميعاً، والأمر نفسه بالنسبة لقول أحد المسيحيين) والمتوتر على مواقع التواصل والذي يعكس أنماط تفكير وعيش فئات واسعة من المجتمع اللبناني تقبل على هذه المواقع على نحو منقطع النظير. والخوف من أن تغدو هذه اللغة هي اللغة السائدة ولا لغة غيرها تخاطب العقل وتسعى لإنتاج مشروع لبناني يعطي معنى لهذا البلد الصغير الذي يذكّرنا ضيوفه الأجانب بأنّه يصلح لأن يكون "نموذجاً" وسط كل هذا التداعي في المنطقة.. لكن يبدو أنّ النموذج اللبناني الطاغي والأقوى، في الراهن، هو نموذج الانقسام والكراهية على فايسبوك وتويتر!
almodon