بدت عليه مظاهر الخوف، عندما طلبت منه الجلوس في أحد مطاعم مدينة عينتاب التركية. يحمل كيساً مملوءاً بعلب المناديل الصغيرة، يبيعها مقابل سعر يبدأ بليرة تركية واحدة ويتوقف العد التصاعدي لهذا السعر؛ حيث يتوقف كرم زبون المطعم أو أي شخص من المارة في الطرق. ولذلك فور جلوسه على الطاولة قال: عمو اشتري مني محارم؟
تعتبر ظاهرة تسول الأطفال السوريين أو بيعهم أشياء بسيطة، كالمناديل، أمراً مألوفاً للعين في مدينة غازي عينتاب الحدودية مع تركيا، والتي يقطنها مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، إذ تجدهم على أبواب المقاهي والمطاعم السورية والتركية التي يتوافد عليها السوريون. ومن يمتلك الجرأة منهم يستطيع الدخول إلى المطعم أو المقهى لعدة دقائق قبل أن يطرده القائمون عليه لمنعه من مضايقة الزبائن، كذلك تراهم يجوبون الحدائق العامة والشوارع، بمعدل سبع إلى تسع ساعات من التسول المتواصل يومياً.
بذلت جهداً كبيراً لإقناع أحمد (عشر سنوات) بالجلوس والحديث عندما دخل المطعم، إذ كنت بانتظار طفل ما يدخل ليبيع المناديل، بعد أن فقدت الأمل في العثور على أحد منهم خلال ساعة من البحث في الشوارع القريبة من المقهى. لم يكن راغباً في الحديث إلي، ولكنه كان مصمماً على بيع أكثر عدد ممكن من علب المناديل، ورأى أمامه شخصاً من الممكن أن يشتري منه عدداً جيداً منها.
حاول ببراءة الأطفال أن يخدعني بشأن اسمه، عندما علم أنني صحافي: "قول إن اسمي أحمد". أخبرته أنني سأكتب عنه باسمه المستعار الذي يختاره هو ووافق بصعوبة.
يقول أحمد إنه من حي الشعار في مدينة حلب، ودرس حتى الصف الثالث الابتدائي، قبل أن يخرج من المدرسة ليعمل في بيع المناديل في شوارع عينتاب. له أربعة أخوة؛ أختان وأخوان، أكبرهم سناً يبلغ من العمر 14 عاماً. وهو يبحث عن عمل في مجال الخياطة أو البناء بعد أن قرر ترك مهنة بيع الأقلام والمناديل والتسول.
يتابع: "أعمل منذ نحو الساعة الثالثة عصراً حتى العاشرة والنصف ليلاً، أحياناً أتعرض لطرد وتعنيف من قبل القائمين على المقاهي والمطاعم".
يتحفظ أحمد على المبلغ الذي يجنيه يومياً من العمل في بيع المناديل، وقد تهرب مراراً عند سؤاله عن ذلك، كما لم يفصح عن والديه؛ إذ كانا يخافان عليه لبقائه إلى الساعة العاشرة والنصف ليلاً خارج المنزل. قال فقط إنهما يعرفان أنه سيعود للمنزل عند تلك الساعة.
يختم أحمد حديثه بأنه يرغب في تعلم مصلحة، على أن يكمل تعليمه في حال تركه العمل في الشارع وهو أمر مفروغ منه بحسبه، ولكن ينتظر حتى يكبر بضع سنين أخرى.
من جهة أخرى، حارث طالب سوري يدرس في إحدى الجامعات التركية، إضافة لكونه ناشطاً في عدة قضايا تهم السوريين في تركيا والداخل السوري.
يقول إن "ظاهرة تسوُّل الأطفال السوريين أو عملهم في بيع بعض الأشياء البسيطة كالولاعات أو المناديل أو الأقلام، هي مهنة حقيقية تدفع بعض العائلات هنا أبناءها للعمل فيها، وإن الأمر ليس بعفوي ولا مؤقت بالنسبة لهم، فالطفل خلال الساعات السبع أو أكثر يحصل على مبلغ لا يقل عن 30 ليرة تركية".
يتابع: "كنا نراهم في البداية يرتدون ثياباً متسخة وهيئتهم بائسة، إلا أنني ألاحظ خلال الفترة الأخيرة أن هؤلاء الأطفال صاروا يرتدون هنداماً حسناً؛ وهو أمر يعود لاعتقاد ذويهم أن الطفل ذا الملابس النظيفة والمنظر الجيد يتحصل على تعاطف الناس بشكل أسهل. إنهم يضعون أصول المهنة لأبنائهم!".
مدير المطعم الذي قابلت فيه الطفل يعتقد أن والد الطفل يقف على مقربة من المطعم حيث بإمكانه رؤية ابنه هذا وأبنائه الآخرين ومراقبتهم في حال حدوث مكروه لهم، إذ يعتقد كذلك أن جميع أطفاله يعملون في بيع الأقلام والمناديل والولاعات في هذا الشارع نفسه، وهو غير مقتنع بما قاله الطفل الصغير، فقد أشار إلى مراهق كان يراقبنا عن كثب عندما كنت أنا والطفل الصغير أثناء جلوسنا معاً: "إنه أخوه. يبقى قريباً منه دائماً في حال حدث أمر لأخيه الصغير. بماذا تستطيع أن تفسر بقاء طفل صغير مثله خارج المنزل لساعات متأخرة من الليل. أتحدث لك من منطلق وجودي هنا وكونه وأخوته مألوفين لي وللعاملين في المطعم منذ فترة أشهر".
يضيف: "هم يلعبون على عواطف الناس، في بعض الأحيان يعطي بعض زبائننا هؤلاء الأطفال مائة أو خمسين ليرة تركية، دون أن يشتروا منهم شيئا لتأثرهم البالغ بنمط حياتهم وأوضاعهم".
رغم ذلك، هناك حالات إنسانية تستحق التوقف عندها، فأثناء بحثنا في شوارع عينتاب عن أطفال متسولين أو باعة، وجدنا محمد، وهو شخص يعرّفه عدد لا بأس به من السوريين بأنه يرفض أن يأخذ أي مبلغ مالي من دون مقابل. محمد مصاب بمرض شلل الأطفال، ما انعكس على جسمه الهزيل، وهو لذلك يتحدث بصعوبة وبطريقة تكاد تبدو غير مفهومة. عندما اشتريت منه علبة مناديل صغيرة رمى إلي بقلم من بسطته الصغيرة كمقابل للباقي من المبلغ الضئيل الذي اشتريت به.
دانة (مدرسة لغة إنجليزية/ 27 عاماً)، وهي لاجئة سورية في غازي عينتاب منذ نحو السنتين، تلوم المتسولين الشباب على العمل في هذه المهنة، إذ توضح أن وضع السوريين هنا بالعموم ليس جيداً، فقد خسروا جميعهم أشياء من موارد رزقهم أو منازلهم، ما يكذب أي ادّعاء بوجود حالة من الرخاء بين السوريين هنا.
توضّح: "في عدة مرات أعطي بعض الشباب ممن يتسولون بحجة رغبتهم في العودة لمنازلهم في مدن أخرى وعدم وجود مال معهم، لألقاهم بعد أشهر في المكان نفس وبالادّعاء ذاته، وكذلك الأطفال، فثمّة من يستغلهم للتأثير على عواطف الناس هنا".
معظم العينات التي التقينا بها من السوريين تؤكد أن ظاهرة التسول من قبل الأطفال والبالغين تزداد هنا، مقابل ندرة لوجود متسولين أتراك في الشارع. وإذ يقر هؤلاء بأن المصاب الذي ألم بمعظم السوريين قد أفرز حاجة حقيقة تدفع عائلات إلى الشارع، إلا أنهم يؤكدون أن هناك من يستغل تعاطف السوريين والأتراك ليجمع مبالغ مادية هي ليست بالقليلة بحسبهم، ليسيئوا لهؤلاء الأطفال ومستقبلهم، والذي ينحصر في خيارات ضئيلة أبرزها التسول الدائم.
(سورية)
المصدر: العربي الجديد - عادل العايد
↧