أما وأن رفيق السبيعي ممثل قدير، وصاحب تاريخ طويل في المسرح والدراما السوريين، فذلك مما لا نقاش فيه، ومن العادي البديهي أن يؤتى عليه في استعراض العطاء الفني للرجل في أزيد من خمسين عاماً، بمناسبة وفاته أخيراً، غير أن هذا كله لا يعني رمي إعجاب وفير بكل ما أدّاه في أعماله الكثيرة، لا لشيء إلا لأنه رحل عن الدنيا، ولا يعني أيضا إغفال ما أقام عليه عهودا من تزلفٍ للسلطة في بلاده، ولا يعني التعمية على اصطفافه المبتذل مع الحكم في غضون الثورة الراهنة. وكان مثيراً للأسى، وللإشفاق عليه ربما، وهو النجم الذي حاز حباً كبيرا من جمهور عريض، أن يظهر بلباس عسكري، في ثمانينياته، وهو يغني أغنية من كلماته، في حب بشار الأسد، وفي تعظيم الولاء له. وإذا صحّ أنه أدى هذه الأغنية الرديئة، قبل اشتعال الثورة، وليس في أثناء المقتلة التي مارسها النظام في غضونها، فذلك لا يغيّر في أمر صاحبها شيئا، وهو الذي تسمى "فنان الشعب" (هل هو حافظ الأسد من خلع عليه هذا اللقب؟)، فيما صمت تماماً على ما ظل يتعرّض له ملايين من هذا الشعب من جولات التنكيل والتمويت والتهجير والتشريد التي ما زال يقترفها نظام الأسد الابن، بل أكّد، مثل آخرين من نجوم الفن السوريين، وقوفه مع النظام، على غير ما كان عليه نجله الأكبر، الممثل عامر السبيعي، الذي توفي مغتربا في القاهرة.
ليست أهوال المحنة السورية حدثاً عابراً حتى نغفل عن مواقف نجوم المسرح والدراما والسينما السوريين، خصوصا ممن محضهم الجمهور العربي إعجابا مستحقاً. ولذلك، كان له أهميته الخاصة ما قاله النجم جمال سليمان، في حلقة الخميس الماضي في برنامج "المقابلة" في قناة الجزيرة، فقد تحدث لمحاوره علي الظفيري أن وقوفه مع تطلّع الشعب السوري إلى التحرّر من الاستبداد، في غضون الثورة التي رد عليها النظام بشناعة وقسوة ظاهرتين، ليس بطولياً، وإنما هو مجرد موقف أخلاقي ووطني. وكان سليمان بالغ الليبرالية والديمقراطية في قوله إنه "يتفهم" مواقف زملائه ممن يصطفون مع النظام، ويرون أن الثورة راحت إلى حرب تغذيها حسابات ورهانات دولية وإقليمية، غير أنه لا يمكنه تبرير ما مارسه فنانون آخرون من تخوين زملائهم الذين أخذوا موقف الثورة، ودفعوا في مقابل ذلك غربة عن وطنهم وأهلهم وناسهم.
تصادفت مشاهدة مقابلة جمال سليمان في "الجزيرة" مع ذيوع خبر وفاة رفيق السبيعي عن 86 عاماً في دمشق، ومع بعض الجدل في مواقع التواصل الاجتماعي بشأن الأخير، بين من رأوه واحدا من الفنانين "الشبيحة" ومن رأوه فنانا حقيقا وكفى. وإذ ليس من المناقبية التعريض بالرجل الذي طالما أمتع مشاهديه في طور قديم من نجوميته البعيدة، في شخصية "أبو صياح" تحديداً، بشتيمة مثل هذه، فإنه ليس أمراً مستهجناً أنْ يؤتى في استعراض أرشيفه على مشاركته زميله السابق دريد لحام في الولع ببشار الأسد ونظامه، فيما هما على علاقة بغض وكراهية مشهورة (اقرأ مذكّرات السبيعي "ثمن الحب"). وليس أمراً إدّاً أن يُرى رفيق السبيعي ممثلا جيدا فحسب، من دون تعظيم لقدراته وموهبته، ولا تبخيس من شأنه إذا ما قيل إنه كان أقلّ كعباً من نجوم من جيله، وزاملوه في غير فيلم أو استعراض أو مسلسل، وما أكثر السذاجات فيها (الطريفة والمحببة ربما في زمنها).
المقارنة بين "أبو صياح" وجمال سليمان تظلمهما بالطبع، لاختلاف الإمكانات التي أتيحت في جيليهما، ومع الأخذ بالحسبان شيخوخة الراحل في سنوات الثورة والمقتلة السوريتين، إلا أن النضج الذي تبدّى في الضفة التي وقف عليها سليمان أدعى إلى الاحترام، وأنت تحدّق في رفيق السبيعي يغني "نحن جنودك يا بشّار"، وفي البال أن نجم "التغريبة الفلسطينية" كان قريبا من أوساط الأسد الابن، بل ونظر إليه، في مرحلة سابقة، وعداً مأمولا لسورية، لكنه، في غضون محدلة التمويت الأعمى التي أخذ النظام سورية إليها، اختار موقفاً آخر، بالغ الاعتدال، وبلا مزاودات وبطولات، وبأنفاس ثورية مرنة وواقعية وغير عدمية، صدوراً عن فهم خاص للمرحلة الحرجة التي تعبر فيها سورية، دولةً ووطناً ومجتمعاً. رحم الله "أبو صياح" وأطال عمر جمال سليمان.
المصدر: العربي الجديد - معن البياري
↧