غادة أحمد: المكتبة العامة
“أنا حيٌّ مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك” بهذه الكلمات ودّع جبران خليل جبران هذه الفانية تاركًا وراءه إرثًا رائعًا كالمدى اللامتناهي في خياله، لم يرثِه العرب وحسب بل كان للعالم أجمع نصيب من مغنى جبران والإله المنساب من بواكير قلمه. أعمال جبران لم تكن تعرف القيود يومًا، نطق حرًّا وكتب جهرًا، فخلال فسحة الثمانية والأربعين عامًا التي عاشها جبران لم يدع كبيرة أو صغيرة إلا وكان يسبر الأغوار في سحر الوصف وسرده للحياة، فكانت أعماله كلها تتحدث عن تفاصيل حياته، فكره وتطلعاته، وعلينا نحن أن نقرأ جبران في جميع مؤلفاته، كواحد لا يتجزأ، حتى تكتمل الكلمة التي أرادها.
الفيلسوف والشاعر والأديب والفنان اللبناني، شاعر المهجر ورئيس الرابطة القلمية بدأ حياته في بلدة بشرّي شمال لبنان في 6 يناير 1883 لعائلة مارونية فقيرة حيث كانت والدته “كاميليا” الزوجة الثالثة لوالده، لديه من الأشقاء “مريانا – سلطانة – بطرس”، على الرغم من عدم قدرته على الالتحاق بالمدرسة بسبب ظروف عائلته إلا أنه تعلم الإنجيل والعربية والسريانية على يد قسيس كان يأتي إلى المنزل.
هاجر مع والدته إلى أمريكا وهناك التحق “جبران” بمدرسة للفنون والتقى بمدرس يدعي “فريد هولاند دي” الذي اكتشف موهبته في الرسم، وقام بنشر بعض رسوماته على أغلفة الكتب.
وفي عام 1899 عاد جبران إلى لبنان لتعلم اللغة العربية، وهو في الخامسة عشر من عمره حيث التحق بمعهد للتعليم العالي، وقام مع زملائه في الدراسة بتأسيس مجلة أدبية طلابية كما تم اختياره شاعر الكلية، ولكنه عاد إلى بوسطن ثانية عام 1902م بعد أن توفي كثير من أفراد عائلته ولم يتبق له سوى شقيقته “ماريانا” التي اضطرت للعمل في محل خياطة.
ومن بوسطن إلى باريس حيث انتقل “جبران” عام 1908م ليسبر عمق التحول الثقافي والفني الذي كانت تشهده, ومن بعدها إلى نيويورك عام 1911م حيث يدرك معنى المدينة الحديثة في أوسع مفاهيمها.
كانت للحياة المليئة بالأحداث والأوجاع التي عاشها “جبران”، بالإضافة إلى الحرب العالمية الأولى التي قدمت له أغنى مادة للتأمل الجذري في طبيعة القوة وماهية الضعف في النفس البشرية، الأثر الكبير على شخصيته مما كون بداخلة فنان وشاعر وفيلسوف ينظر إلى الحياة نظرة متعمقة.
فمنذ أول مقال نشره “جبران خليل جبران” بعنوان “رؤيا” وأول معرض للوحاته عام 1904م تتعاظم مدارات انتشار نتاجه، وتقف العواصم الحضارية بإجلال أمام أعماله التشكيلية التي يقتنيها عدد من أهم متاحف العالم.
قام “جبران” مع مجموعة من أصدقائه بتأسيس “الرابطة القلمية” التي عمدت على تجديد الأدب العربي، كما أصدر العديد من المؤلفات والمقالات باللغات المختلفة.
ما يميّز مؤلفات جبران نمط الكتابة وسلاسة التعبير، الكنايات التي تجعل المستحيل ممكنًا والذوق الرفيع الذي لا بد أن تشعر بجماله وجلاله.
ومن أبرز مؤلفاته ومقالاته باللغة العربية: “دمعة وابتسامة” و”الأرواح المتمردة” و”الأجنحة المتكسرة” و”العواصف” و”البدائع والطرائف” و”الأرض” و”عرائس المروج” و”نبذة في فن الموسيقى” و”المواكب”.
بينما من أبرز مؤلفاته باللغة الإنجليزية “النبي” وهو مكون من 26 قصيدة شعرية تم ترجمتها إلى ما يزيد على 20 لغة، و”المجنون” و”رمل وزبد” و”يسوع ابن الإنسان” و”حديقة النبي” و”أرباب الأرض” و”الأعلام للزركلي”.
من وجهة نظر ميخائيل نعيمة فقد كانت تسيطر على جبران طبيعتان متفوقتان: «طبيعة الفنان الوجداني المرهف الحس والشعور، وطبيعة المرشد والمصلح والواعظ». هاتان الطبيعتان جعلتا لفلسفة جبران في مؤلفاته اتجاهين، الأولى لامتطاء سرج الخيال وإطلاق العنان في حَبك الأحداث والاستمتاع بالحياة، والثانية ثائرة على خشونة الواقع ونسق الحياة المكبلة بالشرائع والتقاليد، فمثلًا في قصة “مرتا البانية” صور لنا جبران فتاة قروية فقيرة، طاهرة، يغويها رجل فتحمل منه وتلد ثم ينبذها وطفلها لتحتضنها أعشاش الدعارة مرغمة بسبب الحاجة، فيكتب جبران بلسان مرتا: “نعم. أنا مظلومة، أنا شهيدة الحيوان المختبئ في الإنسان. أنا زهرة مسحوقة تحت الأقدام … أيها العدل الخفي الكامن وراء هذه الصور المخيفة، أنت، أنت السامع عويل نفسي المودّعة ونداء قلبي المتهامل. منك وحدك أطلب وإليك أتضرّع، فارحمني وارعَ بيمناك ولدي، وتسلّم بيسراك روحي”. تدور معظم مؤلفات جبران في فلك أبناء الفطرة وغزل معاناتهم بالكلمات، فأشد أعداء جبران هم الذين يتظلمون الناس ويسرقون منهم خيوط الشمس.
جبران تمرد وامتزج في مصاعب أبناء الفطرة فكتب المعاناة نثرًا موجعًا وكتب الحكمة واعظًا مُرشدًا، وهذا ما يتجلى في كتابه “الأرواح المتمردة” الذي افتتحه بحكاية “السيدة وردة” التي تصور امرأة طيبة لا تفقه من الزواج معناه، فشاء أهلها أن تكون زوجًا لرجل غني يفوقها سنًّا بكثير، وفي حكاية “صراخ القبور” تحدث جبران عن حاكم أمير أمر بقتل ثلاثة أشخاص بغير سؤال وغير شهادة شاهد، وفي “مضجع العروس” يعود جبران إلى حكاية الزواج بالإكراه وظلم الحكام والرهبان، وأقتبس: «وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليصيّرني له زوجة – أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقّب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب».
انتهت حياة الأديب والفنان “جبران خليل جبران” يوم 10 أبريل 1931م في نيويورك لإصابته بتليف الكبد ومرض السل، وتنفيذًا لرغبته بأن يُدفن في لبنان تم بالفعل دفنه في صومعته القديمة في بلده الأم في 1932م والتي عُرفت فيما بعد باسم متحف جبران.
↧