في مثل هذه الأيام أضرم البوعزيزي النار في جسده… و مات… و غير مجرى التاريخ العربي..
الكثيرون يعتقدون بأنه فعل ذلك احتجاجا على مصادرة مصدر رزقه، عربة الخضار و الفواكه، و ضربه و صفعه على وجهه من قبل شرطية تونسية.. و لكن..
محمد البوعزيزي لم يحرق نفسه ﻷن شرطية منعته من كسب عيشه في سوق الخضار، أو ﻷنها صفعته على وجهه أمام الناس، بل أحرق نفسه بعد أن رفض المسؤولين في مدينة سيدي بو زيدالاستماع إلى شكواه ضد تلك الشرطية و معاونيها..
الذي دفع البوعزيزي إلى إحراق نفسه هو إحساسه باليأس من القدرة على تحصيل حقه، أحرق نفسه ﻷن الأبواب التي من المفترض أن تكون مفتوحة كانت مغلقة، ﻷن المسؤول الذي من المفترض أن يكون مدافعا عن الناس كان شريكا في ظلم الناس..
أحرق نفسه ﻷنه لم يكن يملك المال لرشوة الشرطة، قالوا له ان أردت أن تبيع الخضار و الفواكه لكي تطعم أفراد عائلتك فعليك أن تملك إما المال لتشترينا به و إما الواسطة لتجبرنا بها..! و صاحبنا كان فقيرا لا مال عنده و لا واسطة..!
أحرق البوعزيزي نفسه بسبب اليأس… و لو أن المسؤولين التقوه و استمعوا إلى شكواه و أعطوه في الحد الأدنى حقه في استرجاع بضاعته و الميزان الذي كان يستعمله في عملية البيع، و هي أشياء كان قد اشتراها بالدين أساسا، لكان ربما تريث قليلا و بقي لديه بعض الأمل أن يعود إلى السوق فيبيع بضاعته، و يسدد دينه، و يعود إلى أمه و أخواته ببعض النقود..
نعم هو اليأس.. اليأس الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم..
قولوا لي بربكم.. ماذا يفعل الإنسان الفقير، المغلوب على أمره، عندما يشعر بالقهر و الظلم، و لا يجد من يعطيه أية بارقة أمل..؟!
قولوا لي ماذا يفعل الإنسان الذي يشعر بالذل و المهانة ان لم يجد من يعطيه بعضا من كرامته..؟!
قولوا لي ماذا يفعل المواطن عندما يكون خصمه رجل سلطة..؟!
قولوا لي ماذا يفعل المظلوم ان كان الخصم هو الحاكم، و هو القاضي، و هو المرجع الوحيد..؟!
قولوا لي ماذا يفعل الإنسان عندما يقبل بأقل قدر من الرزق، و بأقل قدر من الكرامة، ثم يأتي من يسلبه هذا القليل من الرزق و الكرامة..؟!
تعالوا نضع أنفسنا في مكان الإنسان المقهور، الإنسان المظلوم، تعالوا نجرب أن نتخيل مشاعره و أحاسيسه، تعالوا نتفهم انفجاره و سخطه و غضبه..!
عندما تتقطع بالإنسان السبل، و يصل إلى مرحلة اليأس، لا فائدة وقتها من كل التنظير و التحليل و الفلسفة، فالإنسان اليائس لا يفهم لغة الحروف و الكلمات، و الإنسان المقهور لا تنفع معه كل المسكنات، فالقهر و الظلم لا يداويهما إلا شيء واحد فقط…. العدل!
صحيح أن ربيع العرب لم يزهر إلا الدماء و الموت، صحيح أنه لم يزد المقهور إلا قهرا، و لم يزد المظلوم إلا ظلما، و لكن الصحيح أيضا أن كل الطرق التي تؤدي إلى العدالة و الكرامة كانت مغلقة، الصحيح أيضا أن أعداء الفقراء و الضعفاء، من الأثرياء و الأقوياء، كانوا يقفون لهم بالمرصاد، و يواجهونهم بكل قوة و شراسة، و يعترضون طريقهم إلى حقوقهم بكل تعنت و إصرار..!
ليس المطلوب من القوي أن يعطي قوته للضعيف و إنما أن يشمله بحمايته و رعايته، و ليس
المطلوب من الثري أن يعطي ما يملكه للفقير و إنما أن يعطيه مما يملكه. مهما كابر الأثرياء و الأقوياء فإنهم لا قيمة لهم من دون وجود أولئك الذين يعتمدون عليهم في صناعة ثرواتهم و قوتهم.. هم شركاء.. شركاء بضعفهم و قلة حيلتهم، شركاء بوجودهم في الحياة، شركاء في الإنسانية، شركاء في الخلق و الطبيعة و الهواء و الأوكسجين و كامل البيئة المحيطة، شركاء في الأحلام، و الآمال، و الآلام، شركاء في الدموع و الدماء…
عندما يفهم القوي بأن لا معنى لوجوده من دون الضعفاء، و عندما يفهم الثري بأن لا معنى لوجوده من دون الفقراء، عندها فقط يمكن الحديث عن علاقة متوازنة يملك كل طرف فيها ما يكفيه من القناعة و الرضى.. و بغير ذلك سوف يبقى الصراع هو العنوان الأبرز للعلاقة بين الطرفين.
و بالنسبة لسوريا..
كل الحلول التي توقف شلالات الدم فورا هي حلول ضرورية و لها الأولوية على كل شيء آخر اليوم، هي أولوية إنسانية و أخلاقية و وطنية كبرى..
و لكن..
لكي نبني وطنا يليق بإنسانيتنا، وطن العدل و الحرية و السلام و الأمن و الإخاء، علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لكي نلغي من قاموسنا الوطني، من قاموس المواطن السوري، مفهوم اليأس، هذا المفهوم الذي ينتج بشكل أساسي عن غياب الضمير الوطني لدى السلطات المختلفة التي تتحكم بمصير ذلك المواطن. فالواقع اليوم، و الواقع بالأمس، يقول بأن السلطة التنفيذية لا تكترث كثيرا بالمواطن، و بمستوى معيشته، و بنوعية حياته، و السلطة التشريعية لا حول لها و لا قوة و هي عبارة عن مجموعة موظفين لدى السلطة التنفيذية، و السلطة القضائية، و ان مارست بعضا من دورها في بعض النواحي، و لكنها غائبة تماما، و مغيبة فعليا، عن دورها الأكبر في مواجهة القضايا الوطنية الكبرى و على رأسها قضية الفساد التي نخرت عظم الوطن، و قهرت شعبه، و أذلت فقراؤه، و أصابت معظم شرائحه بحالة من اليأس جعلت معظمها تلجأ إلى الانخراط في تلك المفسدة الوطنية الكبرى طالما أن لا خيارات أخرى أمامها و الفساد هو دين السلطات و ديدنها!
كم كان عدد المسلسلات السورية الناقدة، و كم كان عدد حلقاتها المتنوعة، و على مدى عقود من الزمن، حول الفساد المالي و الإداري، و حول سرقة المال العام، و حول استغلال النفوذ من قبل المسؤولين و أعوانهم و أصحابهم و عائلاتهم و حواشيهم؟!
ألم ترى الدولة و مسؤوليها كل ذلك؟ ألم يعلم المواطن و يقتنع تماما بأن السلطات تعلم كل شيء، و ترى كل شيء، و هي لا تفعل و لن تفعل أي شيء.. فهي المشرفة و القائمة على كل شيء؟!
ألم يصل المواطن إلى قناعة مطلقة، بعد عقود من الزمن، أن الدولة لن تصحح أي شيء؟ هل كان يوجد مواطن سوري واحد يؤمن بأن التصحيح و التغيير ممكن و بأنه قادم لا محالة، أم أن لسان حال الجميع كان يقول: فالج لا تعالج؟!!
ألم يعلم الصغير قبل الكبير في سوريا أن تسليم أي منصب، ﻷي أحد، هو عبارة عن رخصة مفتوحة للإثراء بلا حدود؟
ألم تصبح كل وزارة، و كل مديرية، عبارة عن مزرعة خاصة بالوزير أو المدير لا يشاركه فيها إلا من وضعه في ذلك المنصب من أجهزة الأمن و ضباطها أو كبار المسؤولين الحزبيين و غيرهم من أصحاب القرار على أعلى المستويات؟
فساد الأخلاق لدى الدولة و مسؤوليها أفسد البلاد و العباد.. و سأقول لكم، و بكل ضمير حي، و بكل قناعة، أن كل من يضع اللوم على الشعب و المواطنين، و كل من يتفلسف متحدثا عن التربية المنزلية الفاسدة و غير ذلك من المبررات المشبوهة، هو واحد من اثنين، إما جاهل محدود الفهم و الذكاء و الوعي و يردد ما يقوله غيره، و إما عالم بما يجري و هو إما جبان لا يجرؤ على قول الحقيقة و إما مستفيد، أو طامح للاستفادة، من واقع الأمر و لا مصلحة له بالتغيير!
يموت الوطن عندما يصل المواطن إلى حالة اليأس… و يحيا الوطن عندما يعيش المواطن بحالة مستمرة من الأمل مستمدة من واقع إصلاحي متجدد دائما و متفاعل دائما مع المواطن و مطالبه و هواجسه..
بزوال حالة اليأس، تزول حالة الصراع…
لنفتح الأبواب بين السوريين على مصراعيها، لنتصارح، لنقول كل شيء، لنفتح القلوب و العقول، و لتكن عقيدتنا الأولى هي قدسية الإنسان و الإنسانية..
و لنتذكر دائما..
في الوطن الحقيقي.. يكون المواطن فيه، أي مواطن، و كل مواطن… هو سيد الوطن!
↧