الأسد مختلّ عقلياً أو متخلف اجتماعياً
جوناثان تيبرمان*- صحيفة (واشنطن بوست) **
في الأسابيع الأخيرة، بدأت الحكومات الغربية بتغيير مواقفها بشأن سوريا بهدوء، ويبدو أن إدارة أوباما تخفض من حدة طلبها استقالة بشار الأسد كشرط مسبق لمحادثات السلام، بل وتشير بعض التقارير أنها تبنّت مقترحات من شأنها أن تسمح الأسد لتكون جزءاً من اتفاق مؤقت. يعني النهج الجديد أن البيت الأبيض وحلفائه يتجهون نحو اعتقاد يوحي أن الرئيس السوري منفتح على حل وسط من شأنه إنهاء الحرب الأهلية في البلاد منذ أربع سنوات.
التقيت الأسد في 20 يناير/كانون الثاني 2015 في دمشق في أول مقابلة له من قبل صحفي أمريكي منذ عام 2013. وإذا كان هناك أمر واحد مفهوم وواضح في حديثه إلى مجلة فورن أفّيرز (شؤون خارجية)، هو أنه أي أمل في أن بشار الأسد منفتح على الحل هو محض خيال. تصنّع الأسد عدة عبارات تظهر تصالحية وحرص على إشراك الحكومات الغربية في محاربة الإرهاب الإسلامي، ولكن تلك العبارات المشجعة تخفي عدم ندم وانعدام أي مرونة اليوم كما كان في بداية الأزمة السورية قبل أربع سنوات. يبدو أن الأسد لا يمتلك أي فكرة عن شدة الحرب واتجاهاتها، كما أن مقترحاته للحل غير عملية على الإطلاق ومبادراته لمزعومة لا معنى لها. وهو ما يعني أنه مهما كانت رغبة القادة الغربيين، فإن القتال في سوريا لن ينتهي إلا بطريقة واحدة من اثنتين، إما أن يهزم الأسد الثّوار، أو أن يهزمه الثوار ويعلقونه من أصابع قدميه.
زيارة سوريا اليوم هي تجربة غريبة ومقلقة، فعلامات الحرب في كل مكان، ويحيط بدمشق الجبال المغطاة بالثلوج وحلقات متحدة المركز من حواجز الجيش، يحرسها جنود مضطربين غير متأكدين من كيفية الاستجابة عندما يرون أمريكياً، (كان البعض غير مبالٍ والبعض الآخر كان معادياً، أحدهم أمسك يدي وصرخ: "جيش الجمهورية العربية السورية يحب الصحافة الأمريكية!"). الجدران الخرسانية العالية تدرع معظم المباني وأبراج المدافع المخططة بالأحمر والأبيض تلوح في الأفق وعلى التقاطعات، وملصقات صور الأسد الملونة باللباس العسكري تتدلى من أعمدة الانارة، وعمال المعونة التابعة للأمم المتحدة يملؤون الفنادق، وأصوات الانفجارات والمدفعية وقذائف الهاون تملأ المكان وهي القادمة من الجبهة على بعد بضعة أميال. وتستمر المقاهي والأسواق بالعمل ويخرج الناس في الشوارع للتسوق، بالإضافة إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين ضاعفوا عدد سكان المدينة منذ بدء الحرب.
ولكن الأمر الأكثر تناقضاً هو الرجل المسؤول عن كل شيء: الأسد طويل القامة بذقن ضعيفة، وبشكل أبعد ما يكون عن الصورة الهوليودية النمطية للمستبد القاتل.
منذ لحظة استقباله لي مع ابتسامة ومصافحة وقهقة عالية النبرة في مكتبه الخاص، دخلت نوعاً من بلاد العجائب في خيال الديكتاتور.
بلاده تحترق ولكنه يخفي كل تلك الأحداث غير السارة على عتبة الفيلا ذات الطراز اليوناني الخاصة به، وهي تطفو على تلة فوق المدينة. جلسنا في جناح عصري فاخر وبجانبنا طاولة عليها جهاز كمبيوتر (آي ماك) ضخم ونموذجاً مصغراً لكنيسة وستمنستر في بريطانيا، ولكن ذلك يبدو غير منطقي على نحو صارخ الآن لأن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون صرّح أن الأسد "غير شرعي تماما". تم تصميم كل شيء لخلق جو من الرفاهية المرموقة، وصولاً الى الكابتشينو وملابسه باهظة الثمن. وكان الرجل مرحاً ومهذباً ومسترخياً تماماً.
كان جيداً بشكل عجيب في تقديم نفسه على أنه شخص عقلاني، فانتقد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، قائلاً إن دور الولايات المتحدة يجب أن يكون: "للمساعدة في تحقيق السلام في المنطقة لمكافحة الإرهاب ولتعزيز العلمانية ولدعم هذه المنطقة اقتصادياً لا لإطلاق الحروب".
ولكن وراء هذا الفذلكة خلف شاربه الذي بالكاد ارتسم على وجهه كان هناك رجلاّ مخادعاً للغاية، أو واهماً بشكل عميق، ومن المستحيل أن نتصوره يتفاوض على نهاية منصفة للحرب الأهلية في سوريا.
أوضح الاسد ذلك عدة مرّات من خلال مكره وخبثه، وبإثقال كاهل محاوره بلغة تجمع بين الحس السليم والأكاذيب الهستيرية، وغالباً في جملة واحدة. لذلك على سبيل المثال، يقول إن "كل الحروب في أي مكان في العالم قد انتهت الى حل سياسي" ويصر على أن "الشعب السوري لا يزال مع وحدة سوريا داعماً للحكومة". وهذا التحليل هو أكثر من مجرد غير قابل للتصديق، بالنظر إلى أن الاضطرابات في البلاد بدأت عندما قمع بوحشية احتجاجات واسعة النطاق خلال الربيع العربي ما أثار الثورة الشعبية، وخصوصاً أن جيشه يعاني فراراً جماعياً، كما تشير الاحتجاجات الأخيرة في حمص وطرطوس إلى أن حتى أقلية الأسد العلوية تتحول ضده.
وفي سياق مماثل، عندما سألته عن تحليلات مستقلة تبين أن حكومته تسيطر الآن على مجرد 45 أو 50 في المئة من البلاد، قال الأسد بأن الحرب في سوريا ليست "بين بلدين أو بين جيشين " ولكن بعد ذلك يصرّ على أن جيشه لا يزال مسيطراً وأنه" يذهب حيثما أراد"، وكأنه لا يعلم حقيقة أن قواته لم يتمكنوا من إزاحة الثوار من حلب على سبيل المثال، منذ ثلاث سنوات حتى الآن.
يقرن الأسد العقلانية مع اللامعقول بشكل مستمر في حديثه بخدع لغوية، ما يجعل اللامعقول يبدو أكثر مصداقية من خلال قربه من المعقول. وبالنتيجة فالرئيس السوري هو إما مخرّف محترف وفي هذه الحالة فهو مجرد معتل اجتماعياً أو سيكوباتي، أو أنه يصدق فعلاً أكاذيبه، وهذه الحالة أكثر خطورة بكثير ويعتبر مختل عقلياً أو سيكوباتي موهوم، فلماذا يقوم بإبرام اتفاق لإنهاء الحرب في حين يقول إنه ينتصر؟
يبقى الأسد أيضاً غير مكترث أو نادم رغم تزعمه صراعاً وحشياً دمر بلاده وقتل حوالي 200 ألف، وشرد أكثر من 7 ملايين وقسم سوريا إلى ثلاث دويلات طائفية. يصر الأسد على أنه لا يمكنه التفكير بارتكابه ولو خطأ واحد: "أود أن أعود إلى المسؤولين على الأرض، لا يوجد شيء في ذهني". الرجل المسؤول عن التعذيب الجماعي للآلاف واستخدام الأسلحة الكيميائية والقنابل البرميلية على المدنيين يقول إن هذه الأشياء لم تحدث أبداً: " تم تلفيق جميع الأدلة من قبل الأعداء، وهي جميعاً ادعاءات دون أدلة"، وهذه المواقف لا تبشر بالانفتاح على حل وسط.
في حين انه خفض إصراره منذ زمن طويل على أنه يجب على الثّوار إلقاء أسلحتهم كشرط مسبق للمحادثات قال لي: "نحن ذاهبون للقاء الجميع، ليس لدينا شروط " ولكنه شكك مراراً بوجود معارضة لإجراء محادثات معها. وعندما سألته إذا كان يوافق على أي نوع من تقاسم السلطة أجاب بنعم ولكن بعد ذلك أصر على أن أي اتفاق من هذا القبيل يجب أن يخضع لاستفتاء شعبي. وهذا الرد يخفي حقيقة أن الأمة المنقسمة التي يحكمها طاغية "فاز" بفترة رئاسية أخرى في الصيف الماضي بـ 89 في المئة من الأصوات لا يمكنه أبداً إجراء استفتاء عادل.
في بداية لقائنا، قال الأسد أنه قرر منحي المقابلة الآن وهي التي طلبتها في عام 2013، بسبب الهجمات الإرهابية الأخيرة في باريس والتي أعطته فرصة جديدة لإظهار أنه يناضل في القضية ذاتها منذ سنوات وهي: أنه والغرب يحاربان نفس العدو وهو التطرف الإسلامي، وبذلك هم حلفاء طبيعيون ويجب أن تتوحد قواتهم.
ولكن بعد كل ما قدمه بالحديث عن المجاملة والمصالح المشتركة، وبمجرد أن تخرج من أوهامه وخداعه ترى أنه من الواضح جداً عدم استعداده للتنازل عن أي شيء على الإطلاق لجلب الطرفين معاً. وفي نهاية المطاف لا يمكن للطاغية أن يتصور إلّا طريقة واحدة لإنهاء الصراع وهي أن يستسلم له كل من يعتبرهم أعداءه في سوريا والمنطقة وفي الغرب، وأن يخضعوا لحججه الملتوية، وحتى ذلك الحين يستمر بشار الأسد في القتل.
*واشنطن بوست هي الصحيفة الأكثر تداولاً في واشنطن والأقدم في تلك المنطقة، تأسست الصحيفة عام 1877. تركز الصحيفة بشكل خاص على السياسة الوطنية المحلية.
**مدير تحرير مجلة فورن أفّيرز(شؤون خارجية)، ويؤلف كتاباً عن كيفية حل أصعب التحديات السياسية والاقتصادية في العالم.
*أورينت نت - ترجمة: منصور العمري
01.02.2015
↧