في الثالثة فجراً، نقل الشاب السوري أحمد غزال زوجته، إلى مشفى وسط دمشق، بعد آلام داهمتها عقب شرب مياه لم يلبث أن تأكد من كونها ملوّثة وغير صالحة للاستخدام الآدمي، إذ لاحظ غزال تلوثا في بئر يعتمدون على مياهها بعد انقطاع مياه الشرب عنهم منذ الثالث والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بعد أن تعرّض "نبع الفيجة" المغذّي للعاصمة بالمياه النظيفة لتدمير جزئي استهدف القساطل الرئيسية ما أدى إلى خروجه عن الخدمة، وتضرر 5.5 ملايين ونصف من المدنيين، حسب ما أكد "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" في بيانٍ نشره في كانون الثاني/ يناير الماضي.
ثلاث طرق بديلة
بعد تدمير النبع، وانقطاع المياه بشكلٍ تام، بات أهالي دمشق يؤمّنون المياه من ثلاثة مصادر بديلة، وفقاً لما وثقه معد التحقيق عبر أربعة مواطنين دمشقيين والناشط في المجال الإغاثي قتيبة ديب، والذي كشف أن المصدر الأول يتمثّل بمياه الآبار التي كان المواطنون قد حفروها سابقاً في منازلهم وعماراتهم السكنية، وتزايد استخدامها بعد أن كان الاعتماد عليها ثانوياً.
أما المصدر الثاني، والكلام للناشط ديب، فهو مياه الآبار التي تقوم محافظة دمشق بتوزيعها، عبر مناهل توضع صباح كل يوم بمدخل الأحياء الرئيسية بشكلٍ مجّاني، وتعد مياه الآبار المباعة بالصهاريج مقابل 6 آلاف ليرة "30 دولارا" عن كل 1000 لتر، هي المصدر الثالث.
تلوث جرثومي وكيميائي
يؤكّد فنّي متخصّص في التمديدات الرئيسية للمياه يعمل في دمشق، أن مياه الآبار ملوّثة جرثومياً كيميائياً وأنها غير صالحة للشرب، بحسب ما وثقه عبر مشاركته مع لجان حكومية مختصة بوضع خطط تزويد العاصمة بالمياه.
وكشف الخبير الذي رفض الكشف عن هويته حفاظا على أمنه الشخصي، "أن استخدام مادة الكلور من قبل مؤسسة مياه الشرب والصرف الصحي، لتنقية مياه الشرب في دمشق، من شأنه القضاء على الملوّثات الجرثومية فقط، لكنه لا يزيل الملوّثات الكيميائية والمعادن الثقيلة".
وأكّد الخبير رصد تلوث العديد من آبار دمشق بسبب تسرّب السماد من المناطق الزراعية إلى الأنهار والمياه الجوفية، إضافةً إلى الملوّثات التي تطرحها الدبّاغات المنتشرة بكثرة حول العاصمة دمشق، والتي تسببت في تسرب الرصاص والزرنيخ والمعادن الثقيلة إلى مصادر مياه الشرب، إضافةً إلى السبب الأبرز الذي يتمثّل في اختلاط مياه المجاري بالمياه الجوفية الموجودة في الآبار، الأمر ذاته يؤكّده المخبري محمد عمراني، الذي أكّد لـ "العربي الجديد" أن هيئة مياه الشرب تضع الكلور في الماء بنسبة تركيز تصل إلى 5 بالألف، لكنه يزيل فقط الشوائب الجرثومية الواضحة في تركيبة المياه وليس بإمكانه النفاذ إلى الملوّثات الدقيقة".
ولفت إلى أن هناك عدّة عوامل تلعب دوراً هاماً في تطهير المياه، ومنها نوع الكائنات الدقيقة ونوع المعقّم وتركيز المادة المعقّمة إضافةً إلى جودة المياه، موضحاً أن الأمراض التي تسبّبها المياه الملوّثة تصل حتى التهاب الكبد والتهابات في المعدة والأمعاء.
تحاليل مخبرية تثبت التلوّث
حصلت "العربي الجديد" على نتيجة تحليل لمياه أحد الآبار في العاصمة السورية دمشق من مواطن يقطن في منطقة البئر الخاضعة للتحليل. وتثبت نتيجة التحليل التي تمت على مياه بئر "الزيّات" بتاريخ الخامس من شهر يناير الماضي، أن التعداد العام للجراثيم الهوائية في 1 مللي وصل إلى 10000 في حين أنه لا ينبغى أن يزيد عن 200، في حين بلغ عدد جراثيم الكوليفورم القولونية في 100 مللي 100 جرثومة في الوقت الذي ينبغي أن تكون صفرا، كما تتواجد جراثيم الإيشر شاكولي"، ما دفع المختبر إلى التوصية بأن "المياه غير صالحة للشرب ما لم يتم تعقيمها"، الأمر الذي يقرأه مهندس مختص بتمديدات المياه مقيم في العاصمة دمشق، على أنه نتيجة طبيعية لاختلاط مياه الآبار مع مجاري الصرف الصحي، داعياً إلى إجراء فحص دقيق لمياه كل بئر قبل استخدامها.
ويشاطره الرأي المهندس عقبة عكاري المقيم في تركيا، والذي سبق أن عمل في مجال تمديد المياه بسورية، ويكشف عكاري لـ "العربي الجديد": "أن خطأً ارتُكب خلال عملية المد الأولى لخطوط الصرف الصحّي إذ تم مدها بمناطق فيها مياه جوفية، الأمر الذي لا يمكن إصلاحه بالوقت الحالي".
غلاء وتلاعب في مياه الشرب المعدنية
ويدفع سعر المياه المعدنية الباهظ، الدمشقيين إلى شرب مياه الآبار الملوّثة، بحسب ما قالته رانية، مدرّسة اللغة العربية المقيمة في العاصمة دمشق لـ "العربي الجديد".
ولفتت رانية، إلى أن جميع العبوات التي تشتريها منذ بدأت أزمة المياه في العاصمة، غير مختومة باللصاقة البلاستيكية المعتادة، ما جعلها تخشى من تعبئتها بمياه آبار ملوثة، وهو ما يؤيده ما نشره نشطاء سوريون على مواقع التواصل الاجتماعي، لتواريخ إنتاج عبوات المياه، تظهر تقاربا في تاريخ الإنتاج والتوزيع في اليوم الثاني مباشرة، بشكل يستحيل معه وصول العبوات من نبع دريكيش بريف طرطوس، المصدر الثاني والوحيد للمياه المعدنية بعد نبع الفيجة.
ازدياد حالات التسمم
وثق معد التحقيق شهادات، ستة مواطنين سوريين يعيشون في العاصمة دمشق أكّدوا لـ "العربي الجديد"، تعرضهم لأمراضٍ مختلفة بسبب المياه، وتراوحت الأمراض بين الإسهال الحاد والحُمى والتهاب الأمعاء، من بين هؤلاء أحمد عباد "اسم مستعار" والذي أكد أنه دفع ما يزيد عن 15 ألف ليرة كلفةً للأدوية والمستشفيات، بعد إصابته بالتهاب أمعاءٍ حاد أفقده القدرة على تناول الطعام، لافتاً إلى أن الطبيب أخبره بأن المياه الملوّثة هي سبب مرضه.
ويلمس أخصّائي الأمراض الهضمية في مشفى ابن النفيس بدمشق عكيد علي، تزايد حالات التسمّم بسبب المياه الملوثة، إذ ذكر خلال حديثٍ لإذاعةٍ سورية محلّية، أن حالات التسمم الواردة للمشفى ازدادت من ثلاث حالات سابقاً إلى 15 حالة حالياً في اليوم الواحد، مرجعاً السبب إلى "شرب المواطنين مياهاً ملوثة وعدم التأكّد من مصدرها".
اعتراف رسمي
بدوره اعترف محمد الشياح مدير "مؤسسة مياه الشرب والصرف الصحي في دمشق"، أن مياه الشرب المستخدمة، ليست بنقاء مياه عين الفيجة، مضيفا في تصريح نقلته عنه وكالة الأنباء الرسمية في 10 يناير الماضي، "في المحصلة المياه صالحة للشرب، ولا توجد لدينا أي حلول أخرى" موضحاً أن الآبار المنتشرة في دمشق هي الوسيلة الوحيدة ويتم العمل على استثمارها بالشكل الأمثل ريثما يتم التوصل إلى حل لمشكلة عين الفيجة"، وفق الشياح.
وأضاف أنه على الرغم من حالة الطوارئ، فإن المؤسسة تأخذ عينات من المياه لفحصها على مدار الساعة، رغم تكاليفها، ويرد المهندس عقبة عكّاري، بأنه من المستحيل فنيا وتقنيا أن تتمكن مؤسسة المياه من تعقيم كل الكمية الموزعة من المياه بسبب أن أزمة المياه جاءت بشكلٍ مفاجئ، ولا تمتلك المؤسسة إمكانية تعقيم المياه والصهاريج وفق المواصفات القياسية العالمية، إذ يتطلب الأمر وقتا وإمكانيات غير متوفرة حاليا.
ضخّ المياه
هل تعود المياه إلى مجاريها في نبع الفيجة؟ يرد عكاري بأن الأمر يحتاج إلى عدّة مراحل لعودتها، تبدأ من مرحلة إيصال الكهرباء من التوتّر العالي لتشغيل الآليات إلى المنطقة، ثم دخول ورشات الإصلاح، وإزالة مخلّفات الحرب، ومرحلة تغيير القناطر المدمّرة في النبع، يعقبها عملية سحب المياه الملوّثة والتخلّص منها، ثم تغيير الأنابيب المدمّرة وهي المرحلة التي تستغرق الفترة الأكبر.
بعد ذلك، يتابع عكاري من الممكن أن يتم فتح العنفات مجدّداً والبدء بعملية ضخ تجريبي لمدّة 48 ساعة، يعقبها ضخّ جزئي للتأكد من سلامة النبع والأنابيب على تحمّل الضغط ثم الضخ الكلي، وهذه المراحل تحتاج حوالي 45 يوماً، يستمر خلالها الدمشقيون في الشرب من الآبار الملوثة.
المصدر: العربي الجديد - تحقيق - أحمد حاج حمدو
↧